منقولأتى الشتاء!…. لا أدري إن كان يحمل في طياته البرد والصقيع, ولكن لطقوس الشتاء علينا حق.. فعمليات تعزيل المنزل من شطف ومسح وتنظيف الستائر وفرد السجاد وأخيراً تركيب مدفأة المازوت تعتبر جميعاً عمليات إستراتيجية وتكتيكية لا تضاهيها إلا المناورات العسكرية في الحرب الحديثة… وعليه, فإن جميع الأسر ستقوم بهذه المناورات منفردة كانت أم مشتركة…
وكما يعلم الجميع, بعد إنتهاء التعزيل يترتب علينا التأكد من جاهزية أهم الأسلحة المخصصة لمكافحة البرد القارس وتزويدها بمادة المازوت الأستراتيجية التي بات أمر أستبدالها باليورانيوم المشع المخصب مسألة فيها نظر…
المهم, تلك الأسلحة السابقة الذكر هي المدفأة أو كما يحلو لنا مناداتها ومناجاتها باسم “الصوبيا” أو “الصوبا”… وكما يعلم الجميع أيضا أن أستخدام هذه الأداة ليلا نهارا أشهر عدة سيجعلها تحتاج إلى عدة عمرات أثناء الشتاء… ولعل أحدى أهم العلامات التي تشير إلى ضرورة القيام بالعمرة هي الـ “نفضة” عندما لا يكون هناك داع للنفض… والنفضة يا إخوان هي صوت شديد أو فرقعة تصدر عن الصوبيا… ومن أهم صفات هذه النفضة أنها مباغتة, أي أن فرائصكم سترتعد عند سماعها.. وقد يرافق هذا الصوت الشديد دخان أسود يخرج من اسفل الصوبيا وخاصة عن وجود رياح عاتية تعصف في الخارج…
أما للتخلص من نفضان الصوبيا, فيتعين علينا القيام بالعمرة… والعمرة هي عملية تعزيل سريعة للصوبيا لإزالة “الشحوار” الذي يسد مسامات حجرة الإحتراق…
كل هذه المقدمة لنصل إلى صديقنا سليمان, وسليمان هذا من المصنفين بشراً الذين يندفعون بحماس شديد للقيام بالأفعال الغريبة, لا لشيء إلا لحب الظهور والمنفخة وليكون حديث الساعة… فمثلاً, هو أول من شرّع السيكارة في دائرة أصدقائه, وكان يضع واحدة فوق أذنه قبل أي خروج مأمون العواقب من المنزل… وبمناسبة الحديث, فأحاديثه جميعا لا تخلو من الإفتخار ببطولاته التي تبدو وكأن جميع بطولات الأساطير بدءً من هرقل وإنتهاءً بسوبرمان مروراً بغرندايزر وجونغر وساسوكي جميعها دون أستثناء كجعجعة بلا طحين أمامه…
وفي إحدى ليالي الشتاء القارس كان سليمان يستضيف عددا من الأصحاب… تحلق أربعة منهم حول الطاولة يمارسون طقوس المتة ويلعبون لعبة التركس الذائعة الصيت وخامسهم جلس بقرب الصوبيا يسجل النتائج ويأجج الخلاف بين الشركاء حال وقوع خلاف بالضحك والتنكيت والأنكلة… كانت الرياح كما يشتهي سليمان وكانت ضحكته شبرين ونصف والسيكارة بين شفتيه تهتز إلى الأعلى والأسفل كلما تكلم من الطرف الآخر من شفتيه… وأثناء إنهماكهم وتماما عندما بدأ أحدهم بالصراخ في وجه شريكه لأنه أكل ختيار الكبة للمرة الثالثة على التوالي بعد عدة صبايا من جميع الألوان… عندها, نفضت الصوبيا نفضة سقطت على أثرها قلوب الموجودين كسقوط كمية من حبات البرتقال من على عربة متجولة في مسلسل عن الشام القديمة… قفز بعض الموجودين خلف السرير, وعانق بعضهم البعض الآخر… ولأن الجميع كانوا يرتدون ثياب ثقيلة, لذا لم يسنح للمراقب من رؤية التسريبات المائية إن وجدت…
مرت عدة لحظات صامتة, لم يحزم فيها عزرائيل أمره في أخذ أحدهم مشوار… إلى أن نطق سليمان أخيراً…
- ما رأيكم أن نطفي الصوبيا؟!
- لاه يا رجل, هل تريدنا أن نقرعب برداً؟
- أليس أفضل من أن تقرعب خوفاً؟
أجاب آخر… – دعنا ننفض الصوبيا, عندها ستتوقف عن إزعاجنا
- الآن؟ إنها لا تزال تشتعل نارا…
أجاب آخرٌ آخر… – دعنا نرمي في “فتيشة”, عندها سننفض أساس اللي نفضها
ولم يكذب سليمان خبراً, قفز من فوره إلى دكان يملكها والده ملحقة بالمنزل, وأتى منها بمجموعة من أصابع الفتيش الباقية في الدكان منذ إنتهاء العيد… وبينما كان الأصدقاء يراقبونه, رفع سليمان غطاء الفتحة الصغيرة في أعلى الصوبيا, وبأستخدام سيكارته أشعل فتيل إحدى الفتيشات ورماها في الصوبيا, ثم أنحنى إلى الخلف مبعداً رأسه عن الفتحة خوفاً من شظايا متناثرة خارجة من الصوبيا… وبلمح البصر انفجرت الفتيشة مصدرة صوتا قويا… لكن الصوت لم يصدر من داخل الصوبيا, وتبعه صوت بعيق صدر عن سليمان… وعندما أستدار إلى الرفاق, سقطوا مغشيا عليهم من الضحك الشديد.. إذ تبين أن سليمان كان قد رمى السيكارة في الصوبيا ووضع الفتيشة بين شفتيه…
جراء حادثة الفتيشة تورمت شفتا صاحبنا لأسبوع كامل… والغريب في صاحبنا الذي عرف بإنتهازه للفرص أنه لم ينتهز هذه الفرصة لتسجيل براءة إختراع عن إكتشافه لطريقة لنفخ الشفاه دون الحاجة إلى حقنهم بالسيلكون…