" من يعرف طباع النساء ؟ "
قرأ في قصة ما هذه العبارة بصيغة سؤال و التي توهجت في ذاكرته كشاشة مضيئة عندما تبدأ بعرض فيلم يزخر بأحداث وذكريات مفجعة أو مؤلمة متتالية ، لا يمكن نسيانها سريعا أو بسهولة ..
فتمتم مع نفسه شاردا :
ــ حقا .. من يزعم بأنه يفهم طباع النساء المضطرمة فجأة كأعماق البحار العاصفة والهائجة بأمواجها المتقلبة دوما ؟ ..
و الآن أيضا انتابه نفس الذهول من طبع تلك الفتاة التي جعلته يعاني طويلا بعدما تظاهرت بحبها له ثم فجأة تنكرت لكل ذلك زاعمة بأنها كل مافي الأمر قد رأت فيه أخيها الفقيد لا أكثر ولا أقل !..
في البداية كانت تفترسه بنظراتها الطويلة الولهانة والمزدانة ببسمة جريئة ، حتى تيقن بأنها تنجذب إليه كرجل قريب إلى قلبها وتحاول الاقتراب منه بذرائع مفتعلة ، حتى رقص قلبه فرحا وانتعش سرورا ، لأنه تصور بأنه ليس بالأمر الهين أن تحبه فتاة جميلة مثلها ، أو تأتي وتذهب إلى هنا وهناك تلفت الأنظار بحضورها الأنثوي الزاهي والمهيب ..
وعندما كان يلتقيان ، كانت ترشقه ببسمتها المضيئة التي كانت تضيء تقاسيم وجهها ذات جمال أخاذ ، وهي تضع يدها على يده وتضغط عليها بخفة ومن ثم لتسحبها فجأة ، متظاهرة كما لو كانت الحركة عفوية و بدون أي قصد أو نوايا مسبقة ..
فكم كانت تقترب منه آنذاك... ! ،
وكأنها تريد أن ترتمي في حضنه الدافئ بأنفاسها المعطرة برائحة الريحان ، فآنذاك كان يلمح المنحدر العميق لصدرها فيخفق قلبه متأوها ، هو يقاوم رغبة جبارة وعاتية لكي لا يمد يده ويلمس و يتحسس بأصابعه المرتجفة تلك الحمامتين ، فكانت هي آنذاك تنظر إلى عينيه بنظرات شبقة وجائعة ، ثم تخفض نظرها باتجاه المنحدر وتتطلع هناك بعض الشيء ،ثم وبدون أي استعجال تسحب ياقة قميصها قليلا إلى فوق لتستر ذلك المنحدر البض البارز ، وتعود لتنظر إليه بتلك الابتسامة المشرقة والولهانة وهي تهز رأسها كأنها تقول : أصبر يا حبيبي أصبر!..
وفي إحدى المرات ، وقبل أن تنصرف دست في يده ورقة ، هامسة في أذنه وهو يشعر بشفتيها تمس أذنه قليلا كما لو كانت تقبله من أذنه قائلة :
ـــ أقرأها بعمق وتأن رجاء !..
و كانت عبارة عن خاطرة بعنوان "
متى يأتي فارس أحلامي " على نحو :
آه يا حبيبي .. آه يا حبيبي ..
كلما فارقتك يبقى بالي مشغولا بك ..
لا ليلي ليل ولا نهاري نهار بدونك ..
يخفق قلبي بصور خيالك
ويغوص و يغوص لوعة في نبع حنانك ..
يحن جسدي إلى طوق ذراعيك ..
وشفتي الظامئتان إلى نهم شفتيك ..
خذني إليك زهرة عشق في ياقتيك ..
وإبريق نبيذ لسكرة أيامك ..
أذوب شوقا إليك وأحترق بخورا عند عتبة غيابك ..فخفق قلبه هو الأخر وجاش بمشاعر فياضة وخلابة ، إلى حد تمنى لو كان له جناحان ليطير من الفرح فوق الجبال العالية و فوق البحار والخلجان الناعسة ، وبمحاذاة الغيوم وعلو الرياح ليصيح من هناك هاتفا أناشيد حبه العظيم ..
لكن دون أن تمضي بضعة أيام على ذلك حتى غابت واختفت فجأة تلك الحبيبة المزعومة وتركته نهبا لمخالب القلق والاضطراب ، فهل تراجعت عن حبها وندمت لتتحاشى لقاءه الحميم أم تعرضت لمصيبة فادحة ؟..
فأخذ يتردد على الأماكن التي كانوا يلتقون : عند زوايا المقاهي و المقاعد الغائصة تحت أشجار الحدائق ، عسى ولعله ، فجأة تباغته بحضورها الأنثوي الباهر قائلة : هاأنذا عدت إليك !.. رجعت مشتاقة ومتلوعة بنار حبك الوهاجة !..فخذني بين ذراعيك وعجنني رغيف خبز في تنور لهيبك ..
أضاف ذلك من عنده كأنما استمرار لخاطرتها تلك ..
لكنه لم يجد غير الخواء وغرابة الوجوه و الأشياء الباهتة كالرماد ..
حتى وجد نفسه يصيح بين تلك الوجوه الغريبة بصوت خنقته عبرات دموع متيبسة :
ــ
من منكم رأى حبيبتي ذات نكهة الريحان ؟..ــ لا أحد !..
كأنما صمتهم هكذا رد وأجاب ..
ذات يوم رآها فجأة في صحبة رجل أخر ، أنيق الملبس جدا ولكن ذو ملامح وغد توحي بالوقاحة والعجرفة ، كانا يجلسان بتلاصق دافئ في غمرة استغراق عميق ، ولم يصدق عينيه أن تكون هي بالذات تلك الحبيبة المختفية الغائبة كشمس الأصياف الطويلة ، فاقترب منها فإذا هي بالذات ، فما أن رأته حتى نهضت محيية بحرارة حتى كادت أن تقبله من وجنتيه ومن ثم قدمته للرجل الذي في رفقتها :
ــ أقدم لك أخي وكاتم أسراري وحارس روحي .. أين كنت يا أخي طيلة كل هذا الوقت ؟..
وكان هو مبهوتا ومذهولا يتمتم :ــ ولكن .....
قاطعته بدموع ساخنة تدفقت وكأنها جاهزة للتو :
ــ أي نعم .. أنا أعدك بمثابة أخ لي و خاصة أنك تشبه تماما أخي الفقيد في شكلك وعاداتك ولطفك و طيباتك !..
مسحت دموعها وهي تسأله باهتمام بالغ :
ــ هل قرأت قصيدتي ؟ ..
إنها عنه ــ مشيرة إلى الرجل الذي كان في صحبتها ــ قصيدة معبرة.. ها ؟ ..
فرد ببهوت أعظم :
ــ نعم !.. إنها خاطرة حلوة !..
ثم هزت كتف الرجل الذي كان بصحبتها هزا خفيفا وهي تقول ضاحكة :
ــ هل رأيت كم أحبك أيها الخائن الغدار ؟..
فلم يرد الرجل بشيء وإنما نهض منصرفا بشيء من ملل ، فقبل أن تلتحق به سألته باهتمام وقلق :
ــ ما لك واجم هكذا يا أخي ؟..
فضاق ذرعا بها وسألها متبرما :
ــ لماذا تخاطبينني بأخي و أنا لست كذاك ؟..بينما كنت أظن بأنك تحبينني حقا !..
وضعت أصابعها على شفتيها مستنكرة :
ــ أحبك ؟ .. استغفر الله . كيف تعشق أخت أخيها .. أنه حرام ! .. ومن ثم أن حب الأخت لأخيها ثابت ودائم أكثر من حب حبيبة لحبيبها و .....
فلم يطق أكثر من ذلك ، فانصرف بخطوات مسرعة ومستعجلة وهو يردد مع نفسه سائلا :
ــ حقا ! .. من يستطيع أن يزعم معرفة طباع النساء ؟..