تلك المرأة
في هذا الغروب , كما في كل غروب تخترقين الطرقات ,تتابعين سيرك المألوف ,تقودك خطاك إلى تلك الحديقة ,تتهاوين على مقعد خشبي ,إنها حديقة شهدت طفولتك و صباك و اشتعلت نفسك بالوجد في ممراتها ,و كم درت في أنحائها الواسعة .
تتطلعين حولك, يثير انتباهك شاب يمسك بيد فتاته, يعابثها يطيران كعصفورين, صغار كثيرون يركضون كأسراب الحمام تنقلين نظراتك بينهم و بين الأمهات, تفر صيحاتهم في الحديقة, و يمنحوها حياة, يستيقظ فيك الحنين إلى طفل يملأ حياتك و تأخذينه إلى صدرك, تنبعث صور الماضي, ما أكثر الذين يمرون في ذهنك.
أنت امرأة فريدة انفتحت أمامك نوافذ الحب,جاءك أناس يخطبونك لأولادهم فأبيت, لعلهم بلا شهادات عالية, ولعلهم فقراء أو دون مستواك الإجتماعي, تتذكرين زميلك في المؤسسة يوم تحدث إليك كإمرأة للمرة الأولى,تسترجعين ذكرى شاعر أهدى إليك دفترا من حب وشوق.
تقفز فتاة صغيرة خفيفة مرحة كغزالة تتوقف قربك تسمعين صوتها : خالتي أنا بنت صديقتك.
تلتف ذراعاك حول عنقها, تقبلينها و يغرق وجهك بالشجن و الكآبة, يندفع الدم في عروقك, تنساب أصابعك بين ثنايا شعرها, وبعد قليل تتابع الفتاة قفزها باتجاه والدتها في الركن الأخر من الحديقة. تذكرين ذلك الشاب الوسيم, لا يملك سوى طموحه, كنت تمياين غليه, يمكنه استئجار منزل صغير آه.. أي تأثير للحب في إسقاط الحواجز؟
يخطر ببالك شاب معدم أحبك فثرت في وجهه, تذكرين جارك الشاب و وجهه الملفوح بالشمس تتأوهين, ينتابك خوف و وحشة. أطياف من أحبوك تزورك, و أنت ستصيرين طيفا شبحا لا يفكر فيك أحد و لا يطرق بابك أحد يالحظك القاسي الشرس.
مثيلاتك تزوجن, و رزقن بأطفال يقبلون على الدنيا فيهبونها بهجة و فرحا, مر عام و عام. ها أنت تأخذين مقعدك في الحديقة هي ملتقى المحبين و العشاق, تشعلين لفافة تمتصينها بنهم, و تنفثين دخانها, ليت الزمان يعود لتقبلي بمن عبروا حياتك, أحدهم ترفضينه لأن الغيرة أعمته فطاش صوابه حين رآك تبتسمين لزميلك في الشارع, أما الآن فترين أنك تستطيعين أن تعالجي الأمور بحكمتك و صبرك فيثق الرجل بك و لا يفقد أعصابه, شيء من الغيرة يبعث الإعجاب و الرضا و الشغف, شيء من الغيرة, أمر ممتع يجعلك تحسين أن الرجل يتمسك بك و لا يلغي حريتك, مضى كل شيء, تحسين أنك مقهورة مهزومة. أين ذاك و ذاك؟ يساورك شعور بالظمأ و الحرقة و يمضك السراب و الحيرة, أنت امرأة تائهة, كل ما تبغينه رجل تطمئنين له, تضعين رأسك على صدره, أنت امرأة متهدمة, تستعيدين وجوها ذهبت و ولت و ترتدين خائبة, لا تعرفين ما ما تبغين حقا, كنت تحلقين مندفعة إلى الفضاء, ها هي أحلامك المستحيلة تلتصق بطين و تراب, تلتصق بواقع لا يرحم, و ها هم الذين أحبوك يمرون واحدا واحدا في الذاكرة, تفكرين ربما لم أكن أملك نضجا ولا أسيطر على نفسي .
تنظرين إلى الأضواء الخافتة, تسمعين صفير قطار قادم,تتخيلين أنه يحتضن عشاقا تنتظرهم محبوباتهم في المحطة المحتشدة, أي امرأة أنت؟ لعلك شجرة عجوز هرمة ترسلين بصرك إلى أشجار الحديقة. عبيرها عذب. أغصانها خضراء تتعانق. أما أنت فغصن يابس كمقعدك الخشبي, تشبكين ذراعيك على صدرك, تتكاثف الأحزان في أعماقك كغيوم سود, لم تفقدي كبرياءك و شموخك في حياتك التي قاربت الأربعين, و الأن يهتز كل شيء, جمالك كان فاتنا مشرقا, و ها أنت الآن تستعيدين وقائع الزمن.
Eng_Majd_Ibrahim