zizoos 2000 مشرف قسم الأدب العربي
عدد المساهمات : 479 نقاط : 5984 تاريخ التسجيل : 03/12/2010 العمر : 34 الموقع : اللاذقية المزاج : متوتر دائماً
| موضوع: لمسات بيانيّة وإعجازات لغويّة في الآية (41) من سورةِ العنكبوت الإثنين فبراير 07, 2011 1:14 am | |
| بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ بعد حمد الله تعالى والثناءِ عليه، وبعد الصّلاةِ على سيّدنا محمّدٍ والمباركة عليه، وبعد التحيّةِ إلى القارئ الكريم والسَّلامِ عليه، فإنّ الله تعالى قد شرَّفني بالوقوفِ عند إحدى آياته المعجزة، وهي الآية (41) من سورة (العنكبوت) الكريمة، محللاً إيَّاها تحليلاً لغويَّاً دلاليَّاً مظهراً جوانبَ جليلةً من الإعجاز اللغويّ واللّمسات البيانيّة في كلام الله جلَّ وعلا ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً. يقولُ تعالى: "مَثَلُ الَّذِيْنَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُوْنِ اللهِ أَوْلِيَاءَ, كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتَاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
فنحنُ لو وقفنا عند هذه الآيةِ الكريمةِ من النَّاحيةِ اللُّغَويّةِ, لوجَدْنا أنَّ الجمالَ فيها يرجع لخصائصَ معيّنةٍ في نظمِها, وترتيبِها, واستخدامِ اللُّغةِ فيها على نَحْو ٍ يثيرُ الدَّهشةَ, ويبهرُ الإعجاز، ويدعو المتلقّي إلى التّأمّل بغية الفهم والاستمتاع بالكشف عن المعنى المراد. وهذه الخصائص كلّها ليست -كما تبدو- مجرّد قواعدَ نحويّةٍ صارمة, ولكنّها معانٍ مترابطةٌ متفاعلةٌ مَعَ غيرها من المعاني القرآنية التي شاركت في نقلِ الصّورةِ العامّة التي يريدُ اللهُ تعالى إبلاغَها للنَّاس. فمنذ مطلع الآية تطالعنا هذه الصُّورة الخياليّة الخلاّقة التي تقوم على المشابهة؛ حيث شبَّه -تبارك وتعالى- الكفّارَ في عبادتهم الأصنامَ, واعتمادهم عليها وجعلها غايةً في حياتهم, بالعنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يغني عنها في حرٍّ, ولا بردٍ, ولا مطرٍ, ولا أذى؛ فمن خلال هذه الصورة البديعة التي تجسّدتْ في خيالنا أروعَ تجسيد, يتّضحُ لنا أنّه لا اعتمادَ لمن يتّخذُ وليّاً من دون اللهِ, ولا حولَ له, ولا قوّةَ, وحاله في ذلك حال العنكبوت الّتي لا اعتماد لها على بيتها في استظلالٍ, وسُكنى, والذي يؤكّد هذا المعنى في ذهن المتلقّي زيادة الكاف في قوله: "كمثل", الأمر الذي يقوّي المعنى ويزيل كلَ الشكوك أو الظّنون أو الإنكار حوله. ومن خلال اعتماد النصّ القرآنيّ على الاسم الموصول المجموع "الذينَ", نستدلُّ على أنَّ هذا كلَّهُ مشمولٌ به كلّ مَنْ تسوّلُ له نفسه مِنَ العقلاءِ أَنْ يسيرَ على نهجِ أولئكَ الكفَّارِ, من إنسٍ , أو جنٍّ, أو ملائكةٍ. كما أنَّ الفعلين: "اتّخذوا, واتّخذتْ" يحملانِ معنى الاجتهاد والطّلب, وكأنَّ كلاً من الكفّار والعنكبوتِ قد اجتهد في طلب الحصول على الملاذ الآمن, إلاّ أنَّ هذا الاجتهاد على عظمتِهِ عندهما, هو واهٍ ضعيفٌ في قانون الله تعالى, دلَّ عليه التّشبيه السّابق, الذي إنْ دلَّ على شيء, فهو يدلُّ على تحقير أولئكَ الكفّار؛ فهم -مجتمعينَ في جبروتهم- حالُهم كحالِ تلك العنكبوت الضّعيفة العاجزة, حتى عن بلوغ مسكنٍ لها تلوذ به. ونقرأ في قوله تعالى: "اتخذوا من دون ِاللهِ أولياءَ" تقديماً وتأخيراً في نظام الجملة؛ حيث قدّمَ -عزَّ وجلَّ- الجار والمجرور "من دونِ اللهِ", على المفعول به "أولياءَ", إذِ التقدير: "اتّخذوا أولياءَ من دونِ اللهِ", لكون المتقدّم هنا -وهو الله- محطّ الاهتمام والرّعاية آخذاً البروزَ التّعبيريّ في تقدّمه، وكون المتأخر -وهو الأولياء- محط ّالإنكار والتّعجب والتهميش, وبذلك يكون تعالى قد خصّصَ الاتّكال والاعتماد به, وقصرهما عليه، فهو الوليُّ الحميدُ المدبّر الناصر المعين وحيداً ليسَ غير، مبعداً كلّ وليٍّ غيره عن التوكّل والاعتماد عليه من دون الله تعالى. وإذا ما وقفنا عند كلمة: "أولياءَ", وجدنا أنّها تندرجُ في العربية تحت باب الممنوع من الصّرف, وهذا يعني أنّها لا تنوّن, لوجود علّةٍ فيها منعتها من ذلك, فهي بذلك مقيّدة, إذ شأن التنوين الإطلاق؛ وعليه فإنَّ هؤلاءِ الأولياء من دونِ اللهِ, على المستوى الفقهيّ ضعيفون عاجزونَ, وعلى المستوى المنطقي مكبّلون محدودون، وعلى المستوى اللُّغوي مقيّدونَ معلولونَ, فمن أين تأتيهم السلطة والنصرة والقوّة؟! وفي قوله تعالى: "العنكبوتُ اتّخذتْ" إعجازٌ لُغَويٌّ أيضاً؛ حيث نقعُ على تأنيث الفعل "اتّخذتْ", وهو هنا تأنيثٌ واجبٌ, فلا يصحُّ أن يُقال: "العنكبوت اتّخذَ"؛ وذلك لاستتار الضّمير "هي" بعد الفعل "اتّخذت" الذي يعود على اسم الجنس الإفرادي "العنكبوت"، وهذا يؤكّد ما ذهب إليه علماء الإعجازٍ العلميٍّ من كون أنثى العنكبوت هي الّتي تبني البيت لا الذكر؛ لذلك أخّرَ تبارك وتعالى الفعل "اتخذت" عن لفظة "العنكبوت"؛ كي يوجب التأنيث ليس غير، ولو قال: "اتخذت العنكبوت" لجاز أن يقال "اتخذ العنكبوت"؛ لأنّ العنكبوت اسم جنس إفرادي يستوي فيه تذكير الفعل قبله وتأنيثه, وفي حال تأخّر الفعل عنه وجبَ التأنيث وحدَه, وهذا ما جاء به النصّ القرآني المعجز. كما أنَّ التّنكير في كلمة "بيتاً" يدلُّ على العموم والتّنويع والشّمول والتكثير, وكأنَّ هذه العنكبوت تبني الكثير من البيوت على اختلاف أنواعها وأشكالها وأمكنتها, إلاّ أنّها كلّها واهية ضعيفة, لا تصلح لفتراتٍ زمنيّة طويلة, حتى إنّها لو دخلت في إحداها لخرقته, وهكذا فإنّ كلّ وليٍّ من دون الله على اختلاف وجهته وملّته وتفكيره ومادّياته وسلطانه وجبروته، فإنَّ شأنُهُ كشأنِ هذه العنكبوت واه ضعيف واهم لا يملك لا لنفسه ولا لناصره ضرَّاً ولا نفعاً إلا بإذن الله تعالى. وهذا ما أكّدُهُ جلَّ وعلا في الجملة التالية, في قوله: "إنَّ أوهنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ"؛ حيثَ أكدّ هذه الجملة بمؤكدين هما: "إنَّ، واللام في خبرها"، ولعلَّ اللاّفت للنّظر هنا أنَّ معنى هذه الآية معروفٌ لدى كلِّ الناس، ودلالته بيّنة، ولا يشكّ فيه أحدٌ، ولا ينكره رجلٌ، ولا يحتاج إلى تأكيد، ومع ذلك قد أكّدَهُ اللهُ تعالى بمؤكّدين، فما السببُ في ذلك؟؟! إنَّ النَّاس مع علمهم بهذه الحقيقة إلاَّ أنّهم قد تجاهلُوها، وتناسَوها، وتغاضَوا عن جليل معناها، فجاء التأكيد ليلفت النَّظر إلى المعنى السابق؛ وهو تأكيد عدم قدرة الأصنام على حماية الكفّار، أو عونهم، أو مدّهم بالقوة أو الرعاية أو غيرها، فالأصنامُ كنسيج العنكبوت، لا يسمن ولا يغني من جوع, وهذا بالطبع بحاجةٍ إلى تأكيدٍ, ليجعلَ الغافل يتنبّه، والنائم يستيقظ والجاهل ينتفض. ولا يفوتنا أنَّ (أل) التعريف في كلمة "البيوت" هي (أل) الجنسيّة التي تشمل كلَّ أجناس البيوت, على اختلاف أنواعها وأشكالها وأصنافها وأصحابها، فكلُّ هذه البيوتِ مجتمعةً أوهنُها وأضعفها على الإطلاق بيتُ العنكبوت. ولا بدَّ نهايةً من الإشارةِ إلى أنَّ قولَهُ تعالى: "لو كانوا يعلمون", ليسَ مرتبطاً بقوله: "إنَّ أوهنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوتِ"؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك, وإنّما المعنى مرتبطٌ بجواب الشَّرط المحذوف المقدّر المنويّ وهو جواب (لو), الذي يدلُّ عليه السّياق على تقدير "لو كانوا يعلمونَ أنَّ أمرَ دينِهم بالغٌ من الوهن ِهذه الغايةِ, لأقلعوا عنه, وما اتّخذوا الأصنامَ آلهةً". وإذا ما نظرنا إلى الأسلوب الذي عرض فيه النصّ القرآنيّ هذه الحقائق كلّها، وجدناه اعتمد على الأسلوب الخبريّ، وهو أسلوبٌ هادئٌ بعيدٌ عن ارتفاع اللهجة الخطابيّة في النّصّ، ليقرَّرَ لنا من خلاله هذه الحقيقة ويجعلها راسخة في الأذهان بهذا الأسلوب التّقريريّ البعيد عن الانفعال، وبهذا يكون قد اختار الأسلوب الأمثل لتقرير الحقائق وتثبيتها في الذهن وهو الأسلوب الخبريّ، وهو بعكس الأسلوب الإنشائيّ الذي ترتفع معه لهجة الخطاب القرآنيّ ولم يختره هنا مراعاة للمقام عظمةً من القرآن في حسن التعامل مع اللغة إذ لكلِّ مقالٍ مقامٌ يناسبه.
وأكثر ما يطربني كلّما وقفتُ عند هذه الآية العظيمة هو أنَّ الله تعالى مُوَجِّهٌ خطابَهُ لجماعةِ العُقلاءِ، وهم -إذ كان هذا ديدنَهم- كالعنكبوت، وهي من جماعةِ غير العقلاء، والعظمة في ذلك أنَّ الله تعالى شبّه العاقل (المتّخذ غيرَ اللهِ وليّاً له)، بغير العاقل (العنكبوت)، وهذا التشبيه إنما هو صورةٌ مجازيّة خياليّة تساعد عبر ظاهرة الإيحاء على تثبيت الحقيقة في الذِّهن، ومعَ ذلك كلِّه إذا نظرنا إلى الجانب اللاتخيّليّ من الآية الكريمة في أثناء توجيه الخطاب نرى أنَّر الله تعالى لم يحطَّ من شأن كرامة الإنسان عندما خاطبهم خطاب العقلاء، مستخدماً بذلك الاسم الموصول للعاقل "الذين" وواو الجماعة التي تخصّ العقلاء في قوله "اتخذوا، ويعلمونَ"،؛ أي أنتَ أيّها السامع إنِ اتخذت اللهَ وليّاً لك فأنت على إنسانيتك تخاطب خطاب العقلاء، وإنِ اتخذت غيرَ اللهِ وليّاً لك فأنت مَنْ تخلّى عن إنسانيته فَصَدَقَ اللهُ حينَ شبّهه بغير العاقل (العنكبوت)... وهذا يعني أنَّ الإنسان هو الذي يختارُ مصيرَهُ بيدِهِ، فمن شاء فليكن إنسيّاً ومن شاء فليتّحد مع كلِّ حيوانات الأرض وأكثرها إفادةً، إنَّ يومَ الفصل كانَ ميقاتاً، يومَ يُنفخُ في الصُّور فتأتون أفواجاً، وكلَّ شيءٍ أحصيناه كتاباً.
ولو أحببنا أنْ نحلّل بنية التّشبيه لنستطعم فنّيته المتقنة التي جاء فيها، من خلال تفكيكه ثم تجميعه في صورة كلّيّة، لرأينا أنَّ: الذين اتخذوا من دون الله أولياء = العنكبوت التي اتخذت بيتاً يأويها. والأولياء الذين اتخذونهم من دون الله = بيت العنكبوت التي اتخذته مسكناً لها. وأولئك الضَّالون ينتمون إلى المجموعة البشريّة. والعنكبوت تنتمي إلى المجموعة الحيوانيّة. وبمعزلٍ عن التشبيه لا توجد مسافة وروابط مشتركة بين كلٍّ من المجموعتين على المستوى العقلي لنظام الكون والموجودات المنطقي. ولكنْ لمَّا جاء التشبيه اخترق نظام الكون المنطقي العقلي عن طريق الخيال والإيحاء، جاعلاً هناك مسافةً وروابط مشتركة بين كلٍّ من المجموعتين البشريّة التي ينتمي إليها المتّخذون من دون الله أولياء، والحيوانيّة التي تنتمي إليها العنكبوت، ليغدوَ كلٌّ منهما بمثابة الشّيء الواحد الذي رامَ ولاذ بشيء واهٍ ضعيفٍ ليحميه وينصره ويجيره إلاّ أنّه لم يفعل، وتركه هشّاً ضعيفاً لا نصرةَ له، عرضةً للهلاك على أهون سببٍ لشدّة هشاشة ما راح يلوذ به وضعفه وعجزه حتّى عن حماية نفسه التي لا يملك لها نفعاً ولا ضرَّاً... هذه الصّورة الساحرة البديعة التي خطّها القرآن الكريم بسحره وبليغ لفظه وعظيم معناه تجسّدت في خيالنا لتوصلَ إلينا من ورائها هذه المعاني الجليلة التي أشرت إليها مراراً... فالجامع بين الصورتين جامعٌ معنويٌّ لا حسّيٌ، إيحائيٌّ لا مادّيّ؛ لأنّهم في النهاية هم بشرٌ والعنكبوت حيوان في حقيقة الوضع، ولكنَّ الروابط بينهما إنّما هي روابط خياليّة إيحائيّة ساعدت على إظهار المعاني الجليلة التي تكتنفها وراءها هذه الصورة التي جاءت من لدن حكيم خبير...
واللهُ أعلمُ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ | |
|