مصطلح بات متداولاً بشدة في الآونة الأخيرة يعكس رغبة قائله في مستقبل زاهر منبثق عن ماض مشبع بالألم والمرارة, فقد أدى تداخل السلطة السياسية مع السلطة الدينية إلى كوارث ما زلنا نتجرع مآسيها حتى الآن, حيث كان لتوظيف الدين في السياسة الأثر الكبير في نشأة واندثار الكثير من الدول عبر التاريخ الإسلامي, كما كان لتوظيف السياسة في الدين الأثر الكبير في نشأة المذاهب الإسلامية وزيادة الاستقطاب فيما بينها
ويمكننا القول أن المقصود اليوم بهذه العبارة هو الدين الإسلامي, والمطلوب تطبيق واقتناع المسلمين بهذا المبدأ, لكن علينا تحديد ماهية العبارة بشكل أدق لتصبح فصل الدين عن السلطة السياسية, لأنه حقيقة لا يوجد ما يسمى بفصل الدين عن الدولة, فالدولة كيان مؤلف من شعب وأرض وسلطة, وبالتأكيد ليس المطلوب هو فصل الدين عن الشعب.
طبعاً لا يسعنا في هذا المقال بحث التداخل الديني السياسي عبر التاريخ الإسلامي, ولكن ما يمكننا نقاشه هو تطبيق هذه العبارة في الوقت الراهن, ولاسيما عندما نكون على مفترق طرق مليء بالتحولات التاريخية كالذي نعيشه الآن.
يمكننا في هذا البحث رصد ثلاث تيارات في المجتمع السوري, تيار يريد أن يبني على النموذج السوري الحالي, وتيار يريد أن يستنسخ التجربة الغربية, وتيار يريد أن يستعيد نموذج الخلافة الإسلامية.
و لا بد لنا من الاعتراف أن المعارضين لهذه العبارة هم تيار الخلافة الإسلامية المكون من مريدين ودعاة, والنقاش المفتوح معهم هو المراد بهذا المقال, وقبل أن نعرف أسبابهم في الرفض وجب علينا المزيد من الإيضاح لتجربة الحكم الإسلامي ولفكرة فصل الدين عن السلطة السياسية.
و إذا ما ابتدأنا بإيجاز سريع للحكم الإسلامي عبر أربعة عشر قرن, فلن نجد ووفق جملة مقارنة أخلاقية إسلامية إلا سنين سوداء مقارنة بأشهر بيضاء, فالدول الإسلامية المتعاقبة كانت إما عائلية ومذهبية, انتهجت الحكم الديكتاتوري, فرقت أكثر مما جمعت, قتلت أكثر مما أحيت, تخلفت أكثر مما تقدمت, مرة أخرى يستند هذا التقييم لجملة مقارنة إسلامية وفق مبادئ حكم الرسول عليه الصلاة السلام وحكم الراشدين.
و بالرغم من معرفة المسلمين لهذه الحقيقة, إلا أنهم أبوا إلا أن يسعوا عبر أربعة عشر قرن لدولة خلافة الراشدين, والتي لم تدم إلا بضع عشرات من السنين, وما أذكره في هذا المقال إنما ينبع من الحرص على المسلمين في إنشاء دولة تنصرهم وتعزهم, ودولة خلافة الراشدين ليست هي الخيار الوحيد, وعلينا البحث في خيارات أخرى معاصرة.
من هذه الخيارات المعاصرة هو الدولة بمفهومها الحديث والمؤلفة من ثلاث سلطات, والتي يمكن البناء عليها من دون الحاجة للعودة لنقطة الصفر, حيث يمكننا أن نهيكل مؤسسات الدولة لنتمكن من وضع المؤسسات الدينية في موضعها الصحيح, دون أن ننتقص ونوسع من حجمها, وبالتالي تصبح الممارسة الدينية تتم وفق منهجها الذي أراده الله.
فالدولة الحديثة تشمل على عدة تنظيمات إدارية, شعبية وسلطوية, من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية, ونقابات ومعارضة وأحزاب, جزء من هذه التشكيلات هي المؤسسة الدينية والتي يجب فصلها عن باقي المؤسسات لتكون جهة إرشادية واستشارية ورقابية في بعض المجالات, شأنها شأن السلطة القضائية, ولكن على العاملين في هذه المؤسسة الانكفاء في مؤسستهم وعدم المساس بباقي مكونات الدولة والوصاية عليها.
و لكن يبدو إن الفصل المتبع الآن للدين عن السلطة السياسية عبر دار الإفتاء ووزارة الأوقاف لا يرضي الكثير من جمهور هذا التيار, فتيار الخلافة الإسلامية يرغب بضم مؤسسة الرئاسة ودار الإفتاء وغيرها من الصلاحيات في شخصية الخليفة, وهنا علينا إيضاح سلبيات هذا الطرح الكامنة في خلق ديكتاتوريات جديدة والتي ينبغي أن يكون دعاة المسلمين أشد المعارضين لها.
إن الثنائية التي يتم الترويج لها إما نظام الخلافة والنظام اللاديني هي ثنائية تضليلية, فما الخلافة والديمقراطية إلا نظم إدارية للأفراد لم ينزل بها نص قرآني وإنما تركت لاجتهادات البشر, ويمكن للمسلمين وبشكل أبسط مما يتصوره البعض من تطوير ديمقراطية تتماشى والخطوط الحمر الإسلامية.
و هنا لا بد لنا من توضيح نقطة في غاية الأهمية, إن المطالبين بجعل منظومة العمل الديني ضمن مؤسسات ليسوا ضد التوجه الديني, لا بل هم معه أكثر من بعض المتدينين الجهلاء اللذين يفضلون الفوضى على التنظيم, واللذين لا يمكنهم الظهور والعمل إلا في الفوضى ويقومون بمواجهة كل دعوى تنظيمية للدولة باتهامات تكفيرية, حيث قام هؤلاء الجهلاء عبر التاريخ الإسلامي بتحويل الدعوة الإسلامية إلى مطية للسلطة السياسية التي لم تتدخر جهداً في استحداث ودعم مذاهب جديدة أودت بالمسلمين إلى ما نحن عليه الآن.
إن تنظيم العمل الديني ضمن الدولة يشابه التطور الذي طرأ على كافة مناحي الحياة, فهل يمكننا النظر إلى التطور التنظيمي في مجال التعليم والطب وغيرها على أنه أمر سلبي؟! فقد تطور الفكر السياسي والإداري في العصر الراهن إلى درجة كبيرة جداً, حيث أصبح بإمكانه استيعاب المؤسسة الدينية وتطلعاتها بشكل كامل ومتوازن, ويتيح لها وسائل وطرق دعوية عصرية, الأمر الذي يوفر على دعاة الدين طلبهم للسلطة باعتبارها وسيلة لنشر الدين, ولكنه بالطبع لن يلغي طلبهم للسلطة كغاية عبر وسيلة هي الدين, ولن يلغي أيضاً طموحهم السلطوي باعتبارهم الفرقة الأحق بها.
و إذا أسقطنا ما سلف على الوضع السوري فسنرى أنه كان لوأد الحياة السياسية خلال السنين الماضية الدور الكبير في تعزيز سلطة رجال الدين, حتى بات لرجال الدين حصانة اجتماعية تفوق الحصانة النيابية والقضائية, وإذا ما ذكرنا ثلاث سلطات دستورية, فقد أقام رجال الدين والمشايخ سلطة رابعة لهم, وفي كثير من الأحيان تفوق قدرة سلطتهم قدرات السلطات الثلاث, وبتنا نرى رجال دين متضخمين يمارسون دوراً في المجتمع يفوق الدور المناط بهم دينياً حتى بات يقارب دور الكهنة في العصور الوسطى.
إن المطلوب اليوم من علماء الدين الإسلامي إيضاح كيف استغل خلفاء وسلاطين المسلمين الدين ليوطدوا حكمهم لا أن يظهروا دولة الخلافة كالمدينة الفاضلة, فهم من خلال تضليلهم هذا المقصود وغير المقصود إنما يزرعون حلم في عقول مريديهم لن يكون له أي أثر سوى تخلف المسلمين واستمرارهم في الدرك الأسفل الذي يعيشون فيه.
لقد بات مطلب إخراج السياسة والتشكيلات الاجتماعية الحزبية من تحت إبط رجال الدين أمراً أكثر من ضروري, ففي الدين الإسلامي ليس هناك طبقة تسمى رجال الدين تختص بأوامر ونواهي معينة وحتى بأزياء معينة لتكون وصية على باقي المسلمين, فإن بقي مجتمعنا يشكل فكره السياسي عبر كتب الفقه وخطب المشايخ فقط فلن تقوم لنا قائمة إلى يوم الدين.
طبعاً جل ما ذكرته ليس بالعموم وإنما على وجه التخصيص الأقرب للأعم, ويمكن لأي باحث رصد ما ذكرت وتصويبي إن أخطأت, وكلي أمل في أن تجد دعوتي هذه صدى إيجابي عند شركائنا في الدين والوطن, عسى أن يكون جيلنا جيلاً تنويرياً قادراً على إشعال بصيص ضوء في ليل أمتنا.
منقول