حكاية الشعر كحكاية الورة التي ترتجف على الرابية,مخدة من العبير...وقميصا من الدم....
إنك تحبها هذه الكتلة الملتهبة من الحرير التي تغمز إصبعك,وخيالك,وقلبك,دون أن يدور في خلدك أن تمزقها,وتقطع قميصها الأحمر,لتقف على سر هذا الجهاز الجميل الذي يحدث لك هذه الهزة العجيبة,وهذه الحالة السمحة,القريرة,التي تغرق فيها......
وحين تفكر في هذا الإثم يوما,فتشق هذه الفائف المعطورة,وتذبح هذه الأوراق الصبية,لتمد أنفك في هذا الوعاء الأنيق,الذي يفرز لك العطر,ويعصر لك قلبه لونا,حين تدور في رأسك هذه الفكرة المجرمة,لا يبقى على راحتك غير جثة الجمال.....وجنازة العطر.....
وفي الفن,كما في الطبيعة,وفي القصيدة كما في الوردة كما في اللوحة البارعة,يجب أن لا نعمد إلى تقطيع القصيدة,هذا الشريط الباهر الندي من المعاني, والأصباغ, والصور,والدندنة المنغومة.
حرام أن نمزق القصيدة لنحصي(كمية)المعاني التي تنضم عليها,ونحصر عدد تفاعيلها,وخفي زحافاتها,ونقف على (لون)بحرها....
فالإحصاء,والحساب,والتحليل,والفكر المنطقي يجب أن تتوارى كلها ساعة التلقين المبدع.لأن كل هذه الملكات العقلانية الحاسبة,فاشلة في ميدان الروح...
فالقمر....هذا الينبوع المفضّض الذي يذرّ على الكون جدائل الياسمين...يحدث لك ولي ولكل إنسان حالة حبيبة ملائمة.إنك تفتح قلبك له,وتغمس أهدابك في سائله الزنبقيّ دون أن تعرف عن هذا (الجميل)أكثر من أنه قمر....
ولو إتّفق أن أوضح لك فلكيّ سرّ القمر,وأجواءه,وجباله الجرداء,وقممه المرعبة,وأدار لك الحديث عن معادنه,ودرجة حرارته ورطوبته,إذن لأشفقت على قلبك,وأسدلت ستارتك...
إذن.فلنقرأ القصيدة كما ننظر إلى القمر........بطفولة,وعفوية,واستغراق...
فالتذوق الفني كما يقول الفيلسوف الايطالي كروتشه في كتابه(المجمل في فلسفة الفن)هو عبارة عن(حدْس غنائيّ)والحدْس Intuition هو الصورة الأولى للمعرفة,وسابق لكل معرفة.وهو من شأن المخيلة,وهو بتعبير آخر الإدراك الخالي من أي عنصر منطقي.
إذن فكل أثر فني يجب أن يستقبل عن طريق (الإدراك الحسيّ)لا(المنطقيّ) أو(الذهنيّ) لأن هذا النوع الأخير من الإدراك ميدانه العلم والظواهر الماديّة.
يقول كروتشه:
(....على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفنّ موقف المتعبد لا موقف القاضي,ولا موقف الناصح,وما الناقد إلا فنّان آخر يحسّ ما أحسّه الفنان الأول فيعيش حدْسه مرة ثانية,ولا يختلف عنه إلا في أنه يعيش بصورة واعية ما عاشه الفنان بصورة غير واعية...)
ومتى تمّ انتقال هذه السيّالة الدافئة من الأصباغ,والنغم,والغريزة والإنفعال...إليك,تنتهي مهمة الشعر,فهو ليس أكثر من(كهربة جميلة)تصدم عصبك,وتنقلك الى واحات مضيئة مزروعة على أجفان السحاب.
من إبداعات نزار قباني