الجزء الأول من التحليل الجاهلي

المفاتيح الأساسيةفي النص الجاهلي
1- عِنْدَمَا نَتَأمَلُ في النَّصِّ الشعري الجاهليِّ نجد انسجاماً وتناغماً بين المستوى الفنيِّ من سياقاتٍ وألفاظ وتراكيب وصور ، وبين المشَّاعر والأحاسيس التي أرادها الشَّاعر أو النَّفْسُ الشَّاعرة .
مثال :صورةُ الخوف التي يستطيع النابغة الذبياني رسمَها بعدَ أنْ استولتْ عليه مشاعرُ الخوفِ عندما يقول :
فإنّكَكاللّيلِ الذيهو مُدْرِكي وإنْخِلْتُ أنّالمُنتأى عَنْكَوَاسِعُ
وعندما نتفكّرفي هذا السِّياق الفنيِّ نستطيع استشفاف ماهية هذا الخوف ، بفضل تمكّن الشاعر من تسخير الألفاظ والتَّراكيب بصورةٍ شاعرةٍ تعبِّر تماماً عَنْ مَشَاعِرِهِ .
2- في النَّصِّ الشِّعْري تَخْرُجُ الألفاظُ والكلماتُ عَنْ مَعَانِيْها القَرِيبة لتأخُذَ مَعَانٍ ودلالاتٍ جديدة فتكون الكلمة في السِّياق الشعري ، وإنْ كانَتْ هي ذاتها ، وَبِهذا نَفْهَمُ النَّصَّ الشِّعريَّ فهماً عميقاً، نعطي فيه الكلماتِ والألفاظ أبعادها العميقة ، مثال يقول النابغة :
يادارَ مَيّةَبالعَليْاءِفالسَّنَدِ أقْوَتْوَطَالَ عَلِيْهَاسَالِفُ الأبَدِ
عندما نتأملهذا البيت الشِّعريَّ نستشفّ فيضاً وجدانياً ، أو شعوراً يُرْسَمُ ، أو يكشف نفساً مليئةً بمشاعر الحزن والاستلاب ، تملؤها أحاسيس الحسرة والضعف والانكسارِ ، تصوغها ألفاظٌ وتراكيب وصور تستطيع أنْ تعبِّر عمّا يجول في هذه النفس الشاعرة .
يبدأ البيتبأداة ( يا ) والنداء هنا يخرج عن معناه القريب ، فنداؤه للقريب ، ولكنَّه ينادي شيئاً كان في الماضي البعيد ؛ لأنَّ ديار (ميّة) الآنَ هي ديارٌ محطمةٌ خاليةٌ ، لكنَّه في ندائه يحن إلى ما كانت عليه من سعادةٍ وهناءٍ ولقاءٍ ، واليوم هي بعيدةٌ ، وهو لا يريد لهذه الدِّيار أنْ تزول وتختفي، لذلكيختار مسمياتِ المكانِ التي تضمنُ تحصينَ هذه الدِّيار وحمايتها .
ولعلّاستخدام حرفالفاء ،الذي أوحىبمعنى التعاقب، يثبتفي الذهنأنَّ الشاعرلا يريدفقط وضعالدِّيار فيمكانٍ مرتفعٍلصونها وحِفْظِهَاوإنّما أيضاًلتمكينها وتثبيتها(بالعلياء فالسند)،لكنَّ الأضواءتكشفُ أنَّهذه الدِّيارقد مرتعليها السنونوفعلت فعلهاالمدمر ،وهذا ماتكشفه الصورالفنيَّة فيالشطر الثانيمن البيت، فنجداستخدام فعلينماضيين متتاليين( أقوت، وطالت) وكان بإمكانِالشَّاعرِأنْ يعبِّرعن دمارِالأطلالِ والديارِبفعلٍ ماضٍواحد ،لكنَّه يستخدمفعلين يدلانعلى وقوعحدث التدمير.
وهذا يعنيأنَّ فكرة الدَّمار والخراب تلحُ على ذهنية الشَّاعر ، مما يوحي أيضاً بمدى الخراب الذي أصاب الأطلال ، وهذا ما يعذب الشَّاعر ، الذي يسلم إلى الدهر ( سالف الأبد ) فعل التدمير والتخريب والأطلال ، فيغدو الدَّهرُ دهراً مُهْلِكاً مدمِّراً .
3- الشعر الجاهلي يلوذ بالصّور الحسيّة ، لكنَّه يُحمِّل هذه الصور فيضه الوجداني ورغباته العميقة، فلا يكون الفرس فرساً عاديّاً أو حسيّاً ، ولا تكون المرأة هي المرأة في الحياة ، ولا تكون الخمر هي الخمر التي تشرب ، وإنّما هي رموز فنيَّة يوظّفها الشاعر تبعاً لحالته النفسيّة
فالمرأة في معلّقة(امرئ القيس) تأتي بعد مشهدٍ طلليٍّ مليءٍ بالضعف والبكاء والأحزان، وتأتي المرأة بأوصافها الكاملة لتكون تعويضاً نفسيّاً يواجه به الشَّاعر ضعفه في الأطلال ، وكذلك الخمر في معلّقة الأعشى .
4- القصيدة الجاهليّة تتمتّع بوحدةٍ نفسيّةٍ ، فالأطلال ترتبط برمزية المرأة وكذلك بالفرس والسيل ، فالطَّلل غالباً فيه فسحةُ تأمّلٍ للمصير والزوال ، وبكاءِ الماضي وحزنٍ وضَعْفٍ يواجهه مشهدٌ مليءٌ بالحياة والقوة والقدرة ؛ كمشهد المرأة أو الثَّور الوحشيِّ .
من هنا نقول: إن الأطلال مرتبطةٌ بالمرأة ارتباطاً وثيقاً .
5- إنَّ الأطلال والمرأةَ والفرسَ والخمرَ والناقةَ والثورَ الوحشي والحمارَ والبقرةَ الوحشيّةِ والسَّيْلِ كلّها أوعيةٌ فنيةٌ تستوعب أفكار الشاعر ومشاعره ورغباته .
6- المرأة في الشِّعْرِ الجاهليِّ رمزٌ فنيٌّ مفتوحُ الدِّلالةِ يستمده الشاعر تبعاً لحالته النفسية ، فهي في المشهد الطللي رمزٌ للحياةِ الماضيةِ وإلى الذكرى والماضي ، وهي في مشاهد الغزل ترمز إلى الخصب والنَّمَاءِ والتََّجدد والحيوية والجمالِ ، وكلّها رغباتٌ نفسيّةٌ يرغب من خلالها الشاعر في امتلاك القوَّة والشَّباب ومقاومة الضَّعْفِ .
7- والمرأةُ في معلقة امرئ القيس ترمز في القصص الغرامية والمغامرات العاطفية التي يقوم بها الشاعر إلى قوته وشبابه ؛ كي يعوِّض عن لحظاتِ الضَّعْف التي تنتاب نَفْسَه ، وهو الذي بكى في مشهد الأطلال وتحسر ، وفي المشهد التالي للقصص العاطفية يكون رمز المرأة في المعلقة مشيراً إلى الخصوبة والتجدد والقدرة ، كلها صفات فنيَّة يريد منها الشَّاعرُ التعبير عن مشاعره التَّواقة إلى امتلاك هذه الصفات بعد الضعف واليأس والإحباط .
يقول امرؤالقيس في تصوير مغامرة عاطفية في معلقته :
وَبَيْضَةِخِدْرٍ لايُرامُ خِباؤُها تَمَتّعتُمن لَهْوٍبها غيرَمُعجَلِ
تجاوزْتُأحْراساً إلَيهاومَعْشَراً عليّحِراصاً لَوْيُسِرّونَمقتَلي
8- الليل في الشعر الجاهليِّ ليلُ السهر واليأس والحزن ، فقد عبَّر الشعراء الجاهليون عن همومهم وأحزانهم ، التي لا تنقضي في ليلٍ أسودٍ يطول بلا نهاية ، وهذا ما عبَّر عنه (امرؤ القيس) في معلقته ، فقد جاء ليلاً طويلاً مليئاً بالهموم والأوجاع والغمِّ ، فحمَّله أسباب معاناته وعذاباته، وأصبح الليل في معلقته موئلاً للهمِّ والحزن والألم ، يقول امرؤ القيس :
وَلَيلٍكمَوْجِ البحرِأرْخى سُدولَهُ عليّبأنْواعِ الـهُمومِليَبْتَلي
ألاأيّها اللّيلُالطّويلُ ألاانْجَلِ بصُبْحٍوما الإصْباحُمِنكَ بأمثَلِ
9- الفرسُ في الشِّعر الجاهليِّ رمزٌ فنيٌ يحملُ في معانيه معاني القوةِ والصَّلابة والسُّرعَةِ والنَّشاطِ، وهذه المعاني هي التي أراد الشَّاعر امتلاكها وهو في لحظات الضَّعْفِ والانكسار النفسي ، فيأتي الفرسُ تعبيراً عن رغبات عميقة في نفس الشَّاعرِ ، مما يعني أنَّ الفرس في الشِّعر الجاهليِّ رمزٌ فنيٌّ بمثابةِ معادلٍ موضوعيٍّ للشاعر ، يُعبِّر من خلاله عن ذاته وعن مشاعره ورغباته .
ويقول (امرؤالقيس) في معلقته مصوراً حصانه السَّريعَ النَّشيطَ :
لَهُأيْطَلا ظَبيٍوَساقا نَعامَةٍ وَإرْخاءُسِرْحانٍ وَتَقْريبُتَتْفُلِ
ويصفحصانه بالصَّلابةوالمتانة ،مشبّهاً إيّاهُبالصَّخرةِالملساءِ المتينة، فيرغبة منهفي أنْيكونَ حالهكحصانه فيمواجهة صعابالحياة ،يقول امرؤالقيس :
كأنَّعلى الكتفينمنه إذاانتحى مداكعروس أوصراية حنظلِ
مداكالعروس : صغيرةتستحق العناء.
الحنظل: الحنطة الصفراءالبراقة .
10- مشهدالسَّيْلِوالمطرِ والبرقِفي الشعرالجاهلي ،مشهدٌ رمزيٌيرمز إلىالخلاص والخصوبةوالتَّجددوالنماء وتجديدالحياة ،وإحياء اليباسوالقحط النفسي، ويعبِّرالشاعر عننفسه ومشاعرهفيكون يباسالأرض هويباس نفسه، وتجديدهاوإخصابها عبرفعل المطرالذي يرمزإلى الخيروالنماء وتجديدالحياة ؛أي نفسالشاعر ،يقول امرؤالقيس فيمعلقته :
أصاحِتَرَى بَرْقاًأُريكَ وَميضَه كَلَمْعِاليَدَيْنِفي حَبيٍّمكلَّلِ
ويتجلىمشهد السيلفي رمزيتهالعميقة الدَّالةعلى التجددوالإخصاب فيتصوير الأرضالقاحلة بعدأن أغرقهاالسيل فتأتي تشبهبضاعة التاجراليماني الملوَّنة.
يقولامرؤ القيسفي معلقته:
وَألْقىبصَحْراءِالغَبيطِ بَعاعَهُ نزُولَاليماني ذيالعيابِ المحمَّلِ

وانتظروامني المزيدفي التحليلالجاهلي والأكثرإفادةً

ولا أطلب منكم سوى الدعاء