إليكم هذه الدراسة لأبيات المتنبي الآتية:
ليالي بعد الظالمين شكولُ ** ** طوال وليل العاشقين طويل.
يبن لي البدر الذي لا أريده ** ** ويخفين بدرا ما إليه سبيل.
وما عشت من بعد ال**** سلوة * ** ولكنني للنائبات حمول.
وإن رحيلا واحدا حال بيننا * ** وفي الموت من بعد الرحيل .
وما شرقي بالماء إلا تذكرا * * لماء به أهل الحبيب نزول.
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ** ** فتظهر فيه رقة ونحول. التحليل :ليالي بعد الظالمين شكولُ ** ** طوال وليل العاشقين طويل.يفتتح الشاعر الكبير قصيدته في الشكوى، فقد اتخذ من العشق ديدنه وغايته، وإن كان من أبعد الناس عنه لمن يعرف سيرة المتنبي.
ولعلَّ الافتتاحية باستخدام أسلوب الإضافة يحمل معنى التحبب، وهو ينعى إشكالية ليل العاشق التي تطول قياساً إلى ليالي الآخرين.
وهذا من عجائب التصوير، إذ يظهر أنَّ الليل هو نفسه منذ بدء التاريخ، ولكن ليل العاشق طويلٌ بالفعل.
يبن لي البدر الذي لا أريده ** ** ويخفين بدرا ما إليه سبيل.وعجائب هذه الليالي -ليالي العاشقين- أنهنَّ يظهرنَ بدراً في السماءِ لا يريده الشاعر وليس هو سبيله، ويخفين البدر خاصته وهو الحبيب المرجو لقاءه.
ولعلنا نلحظ أن الطباق ما بين (يبن) و (يظهرن) له أثر بديع في اجتلاء الحالة النفسية مابين عامل الفقد لمن يريد، وعامل الإيجاد لِما لا يريد.
وصاغت الاستعارة المكنية في الشطر الثاني حالة الشوق للحبيب الذي هو بدرٌ مشرقٌ في حياة الشاعر.
ولكن ما زال سؤال الشاعر وعتبه على الليالي:
أين هو الحبيب؟
وما عشت من بعد ال**** سلوة * ** ولكنني للنائبات حمول.وينفي الشاعر أن يكون قد نسي الـأحـبة، غير أنَّه من كثرة ما تحمل من المصائب لم يعد يجد فراغاً للوجد والحب.
وقد حملت الجملة الفعلية (وما عشت) معنى الثبات والاستقرار على حب الحبيب وعدم نسيانه، وكأنَّ النفي المطلق إبراء ذمته أمام الحبيب، ويستدرك سبب الإعراض بما يعانيه من الشدائد التي تنصب على رأسه.
وإن رحيلا واحدا حال بيننا * ** وفي الموت من بعد الرحيل .يلجأ الشاعر للتأكيد أنَّ الارتحال ولمرةٍ واحدةٍ هو سبب البعد عن الحبيب، ونلحظ التنكير في (رحيلاً واحداً) مما يدلُّ على المعاناة الشديدة في أعماق الشاعر، وتهويل شأن البعاد عن الحبيب، حتَّى بات يرى أنَّ الموت أقرب ما يكون إليه من بعد الافتراق عن الحبيب .
وهذه حال العاشقين حين يحول البعد بينهم.
وما شرقي بالماء إلا تذكرا * * لماء به أهل الحبيب نزول.وبأسلوب القصر (ما ... إلا) إبداع جديد .
فحين نغص من طعامٍ نلجأ إلى الماء، ولكن الماء القُراح عند الشاعر سبب للغصة (شرقي).
نعم فهو عندما يتذكر ال**** وقد ارتحلوا وراء ماءٍ يغصُّ -وهنا نراه كالوقفة الطللية في العصر الجاهلي- يتذكر أنَّ هجرة الأحباب له لم يكن إلا ارتحالاً مع قبيلتهم وراء الماء.
والمأساة أن الشاعر عندما يتذكر سعيهم للماء، يغص بما يشربه.
فالماء عند الشاعر عامل للهلاك والموت
وهو عند ال**** عامل للحياة.
وشتان ما بين المائين !!
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ** ** فتظهر فيه رقة ونحول.معنى عجيب من معاني عظيم الشعراء:
فهو يعجب لليل الذي يرى عينيها كيف لا يهلك؟
يقول: فرَّقتنا الأيام، وباعدت بيننا، ولم نعد نلتقي، ولكنَّ هذا الليل يمتدُّ بيني وبينك، فيا للعجب كيف لا يهلك وهو يراكِ مثلما هلكْتُ أنا!
فهذا التساؤل استنكاريٌّ لحال الليل الذي لا يعرف مصائب العشاق، الساهرين طيلة سواده، فلماذا لا يهلك مثلهم؟
وكأنَّ الشاعر يقول: إنني طيلة الليل ساهر بعدما ارتحلوا بعيداً عني.
فليعانِ الليل من فراق عينيها كما أعاني !!
والحمد لله رب العالمين