منتدى كلية الآداب في جامعة تشرين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


مرحبا يا.. زائر .. نتمنى لك قضاء أجمل الأوقات برفقتنا
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولدخول الأعضاء
طائفتي سوري

المواضيع الأخيرة
» علاء العيد ع قبال المية
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف اشتياق الروح السبت يوليو 25, 2015 8:28 am

» وينك...شو صاير ماحدا عم يدخل؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف اشتياق الروح السبت يوليو 25, 2015 8:17 am

» ارجعو بقاااااااااااا
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف اشتياق الروح السبت يوليو 25, 2015 8:10 am

» سليمى ................
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء ديسمبر 24, 2014 10:20 pm

» إذا تأخر الزوج؟؟؟؟
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف kasem22 الخميس ديسمبر 18, 2014 10:55 pm

» الآية التي جمعت حروف اللغة العربية .....
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء نوفمبر 05, 2014 5:21 pm

» مساااا الخيرر
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف shireen الأربعاء نوفمبر 05, 2014 12:36 am

» مساااا الخيرر
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف shireen الأربعاء نوفمبر 05, 2014 12:36 am

» حذار .....
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الإثنين نوفمبر 03, 2014 5:50 am

» برنامج الدوام أدب إنكليزي
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف idris الثلاثاء أكتوبر 14, 2014 7:13 am

» لا تسأليني ....
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأحد أغسطس 31, 2014 5:37 am

» سجل حضورك بأسم شخصية تاريخية تاثرت بها ....!!!!
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف هبة 1990 الإثنين يوليو 14, 2014 10:14 am

» الى إدارة قسم اللغة الفرنسية في جامعة تشرين
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف nedalo الإثنين مايو 26, 2014 5:31 am

» يا حبيبي .........
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء أبريل 23, 2014 4:02 am

» رباه ...!!
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء أبريل 23, 2014 3:56 am

» رقَّ الفـؤَادُ .........
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء أبريل 16, 2014 4:52 am

» ابن الرومي - هجاء
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الأربعاء أبريل 16, 2014 4:46 am

» معشوقتي ذرة الكربون
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الثلاثاء أبريل 15, 2014 3:18 am

» كأسٌ من سراب
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن الثلاثاء أبريل 15, 2014 3:09 am

» تناقض الصور
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف nedalo الإثنين مارس 31, 2014 1:52 am

» افتتاح مكتبة سيناتور
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف nedalo الإثنين مارس 31, 2014 1:41 am

» وطني يتضائل
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف nedalo الإثنين مارس 31, 2014 1:38 am

» قبلة حميمية
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف غسان حسن السبت مارس 15, 2014 5:41 am

» أيمت الدوام يا شياب
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف 7moda.3an الأربعاء مارس 05, 2014 2:04 am

» أرقام مدرسين خصوصيين
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyمن طرف احمد رامز الأحد فبراير 23, 2014 10:37 pm


 

 وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
zizoos 2000
مشرف قسم الأدب العربي
مشرف قسم الأدب العربي
zizoos 2000


ذكر
الجدي عدد المساهمات : 479
نقاط : 5984
تاريخ التسجيل : 03/12/2010
العمر : 34
الموقع : اللاذقية
المزاج : متوتر دائماً

وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Empty
مُساهمةموضوع: وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي   وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 1:20 am

يُطلعنا هذا التّراث الشّعريّ على الأنماط السّلوكيّة، التي كانت سائدة في العصر الجاهلي، وعلى رؤية المجتمع للأدب على أنّه "وسيلة لتطهير النّفس، وتهذيب الخُلُق"( )، إِذ ليس ثمّة غاية للأدب أسمى وأجلّ من صقل النّفوس، وتهذيبها، وبثّ القيم السّلوكيّة العُليا في نفوس مُتَلقّيه؟

لقد فَهِمَ الشّاعر الجاهليّ الأدب على أَنّه رسالة سامية، تقوّم بما فيها من قيم نفسيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة، على نحو ما نطالع هذه الرّؤية في قول حسان بن ثابت( ):
لَكِ الخيرُ، غُضّي اللّومَ عنّي، فإِنّنـي
ألم تعلمي أنــي أرى البُخْـلَ سُبّـةً
أُحبُّ من الأَخلاقِ مـا كـان أَجمـلا
وأَبـغـضُ ذا اللّوْنـيـن والمتنقّـلا

وبهذه الرّؤية للأدب يكون الكلاسيكيون قد رأوا عند الشاعر الجاهلي بغيتهم إلى استخدام الأدب في تصوير الفضائل النّبيلة، وفي هذا يقول مُنظّر الكلاسيكيّة، النّاقدُ الفرنسيُّ "بوالو": "لا تقدّموا نفوسكم و عاداتكم في أعمالكم الأدبية إلاّ في صورة نبيلة"( ).

لقد كان الشّاعر الجاهليّ "مُعلّم القبيلة ومُرْشدها"( )، فقد حَرَص في إِطار مَهمّات الشّعر التّربويّة على نشر القيم والمُثُل، التي تشكّل الشخصيّةَ المثاليّةَ، كما يراها المجتمع( ).

وكان هذا التّراث الشّعري الجاهليّ – بما حوى من قيم سلوكيّة ومُثُل عُليا – مادّة التّأديب في ذلك العصر، وظلّتْ له منزلة رفيعة بين موادّ التّأديب الأُخرى في العصور الإسلامية. فعمَرُ بْنُ الخطّاب، رضي الله عنه، كان يدرك قيمةَ الشّعر التّربويةَ، وأهدافَهُ السّلوكيةَ، مما جعله يكتب إلى أبي موسى الأشعري( ): "مُرْ من قِبَلِكَ بتعلّم الشّعر، فإنّه يدلّ على معالي الأخلاق، وصواب الرّأي، ومعرفة الأنساب". وتوجيهاتُ عُمَرَ تدلّ على فَهْم عميق، لِدَوْر الشّعر في صقل النّفس والسّمو بها، فيؤكّد هذا المعنى بقولـه( ): "تحفّظوا الأشعـار، وطالعـوا الأخبار، فإنّ الشّعر يدعو إلى مكارم الأخـلاق، ويعلّم محاسن الأعمال، ويبعث على جميل الأفعال، ويشحذ القريحة، ويحدو على ابتناء المناقب، وادّخار المكارم، وينهى عن الأخلاق الدّنيئة، ويزجر عن مواقعة الرِّيَبِ، ويحضّ على معالي الرّتب".

حِرْص الشّاعر الجاهليّ على تربية الأبناء:
يدلّ ما بين أيدينا من شعر جاهليّ دلالة قاطعة على عناية الشّعراء الجاهليّين بتربية أبنائهم، وصَقْل نفوسهم، وغَرْس القيم السّلوكيّة فيها. وتأخذ هذه التربيةُ شَكْل وصايا شعرية يصدرها الآباء إلى الأبناء، بعد أن بَلوا الحياة وخبروها، وامتلأتْ جِعابهم بتجارِبَ إنسانيةٍ، فينقلون هذه التجاربَ إلى الأبناء، ويغلب على هذه الوصايا أن تكون عند إحساس الشّاعر بدنوّ الأَجَل، على نحو ما نجد ذلك في وصايا ذي الإصبع العدواني( )، وعبد قيس بن خُفاف البُرْجُميّ( )، وعمرو بن الأهتم( )، وقيس بن عاصم المِنْقَريّ( )، وصِرْمَة بن أبي أنس( )، وعَبَدَة بن الطّبيب( )، وغيرهم، وهي وصايا طويلة، حَرَص كلّ واحد من هؤلاء الشّعراء على أَنْ يرسم لابنه أو أبنائِه صورة البطل الكامل، والإنسان الأُنموذج، وهذا كلّه "يدلّ دلالة قاطعة على عناية هؤلاء القوم بتربية أبنائهم، وحرصهم على السّموّ بهم"( ).

وصرّح كثير من الشّعراء بأنّ تلك القيم الأخلاقيّة التي يتحلَّوْن بها قد تلَقَّوها مباشرة عن آبائهم. وتأتي هذه الوصايا مقرونة بصيغ الأَمْر، أو ما يشبهها، ليتمسّك بها الأبناء.

وها هو أعشى بني طرود يفخر بأوامر أبيه التي جعلتهُ يحوز المكارم، قال( ):
إنّي حَوَيْتُ على الأقــوامِ مكرمــةً
وقال لي قَــوْلَ ذي عِلْـم وتجرِبـةٍ
أَمرتُكَ الخيرَ فَافْعَـلْ ما أُمِـرتَ بِـه
وَاتْرُكْ خلائقَ قــومٍ لا خـلاقَ لهـم
وإنْ دُعيــتَ لغـدرٍ أو أُمـرتَ بـه
قِدْمـاً وحـذّرنـي مـا يتّقـون أبـي
بسالفـاتِ أُمـور الدّهـر والخُطـبِ:
فـقـد تـركتُـكَ ذا مـالٍ وذا نَسَـبِ
واعمِدْ لأخلاقِ أهـل الفضـلِ والأدبِ
فاهربْ بنفســك عنـه أَيّـدَ الهـربِ


ويزهو مالك بن حريم الهمدانيّ بجوده الذي تلقّاه وصايا من أَبيه، يقول( ):
أَجـودُ على العانـي، وأحـذرُ ذَمَّـهُ
بذلك أوصانــي حَريـمُ بـنُ مالـكٍ
إِذا ضـنّ بالمعــروفِ كـلُّ بخيـلِ
بـأنّ قليـلَ الـذمِّ غـيـرُ قـلـيـلِ

ويفخر الأعشى؛ ميمون بن قيس، بأنّه كان متسامياً في حياته، عاش بين وصيّتين: واحدة ورثها عن أَبيه، وثانية ورّثها لابنه. وقد كثّفتْ الوصيّة الأولى نظرة أبيه إلى الحياة( ):
أُوصـيكُـمُ بثـلاثٍ إنّنــي تلــفُ
حـقّـا عـلـيّ فأُعطيـه وأعتـرفُ
يومـاً من الدّهر يثنِيــهِ فينصـرفُ
إذا تلوّى بكـفّ المعصَـمِ العُــرُفُ
إنّ الأعـزّ أبـانـا كـان قـال لنـا:
الضّيـفَ أوصيكُـمُ بالضّيف إنّ لـه
والجــارَ أوصيكُـمُ بالجـار إنّ لـه
وقاتلــوا القـوم إنّ القتـلَ مكرمـةٌ

لقد سجّل الأعشى باعتزاز كبير ما تلقّاه عن أبيه من وصايا تحضّ على إكرام الضّيف، وحفظ الجار، والاستبسال في القتال.

أما وصيّة الأعشى لابنه فقد كثّفتْ نظرته إلى الحياة من خلال حكمة الشيخوخة( ):
وصاةَ امرئ قاسى الأُمورَ وجـرّبـا سأُوصي بَصيرا إنْ دنوتُ من البلــى
ولا تَنْءَ عن ذي بِغْضَة إنْ تقرّبـا بأنْ لا تُبَـغّ الـوُدّ مـن متبـاعــد
لَعَمْرُ إبيكَ الخيــرَ لا مَنْ تنسّبــا فـإنّ القـريـبَ مـن يقـرّبُ نفسَـهُ
مصارعَ مظلـومٍ مَجَـرّا ومَسْحَبـا ويحْطَـمْ بظلـم لا يـزال يـرى لـه
يكنْ ما أساء النارَ في رأسِ كوكبـا وتـدفنُ منه الصّالحــاتُ وإنْ يُسـئْ
ولا قـائــلا إلاّ هـو المتعيّبــا وليس مُجيرا إِنْ أتـى الحـيَّ خائـفُ

فقد أَوصى ابنه بَصيراً بألاّ يلتمس الوُدّ ممّن يتباعد، وإِنْ قَرُبَتْ قرابته، ولا ينأى عن المتودّد المتقرّب، وإِنْ سبقتْ عداوته. وليس القريب مَنْ تربطك به صلة النّسب، ولكنّ القريب الحقّ مَنْ قرّب نفسه بالوُدّ، وأَخلصه.

ويشكو الأعشى من فساد العلاقات الإنسانية، فهو في زمن لا يرعى فيه أَحَدٌ قرابةً ولا نَسَبا، يغترب المرء عن أهله، فإذا هو وحيد بين قوم يعتزون بأنصارهم من رهطهم، لا يجد مَنْ يغضب له، أو ينصره إذا خاصم أحدهم ... فَهُمْ يَدٌ واحدة عليه، يحطمونه بجَوْرهم، ولا يزال كلّ يوم صريع ظُلْم جديد، يتقاذفه القوم جرّا وسحبا.

ويطلعنا عبد قيس بن خُفاف البُرجميّ على أنّ جود حاتم الطّائي كان استجابة لوصايا أبيه وأجداده. وآية ذلك أَنّه أتى حاتما الطّائيّ في دماء حملها عن قومه، فأسلموه فيها، وعجز عنها، فقال: واللّه لآتينّ مَنْ يحملها عنّي، وكان شريفا شاعرا، فلمّا قدم عليه قال: إِنّه وقعتْ بيني وبين قومي دماء فتواكلوها، وإنّي حملتُها في مالي وأَملي، فقدّمتُ مالي، وكنتَ أَملي، فإن تحملْها فرُبّ حقّ قد قضيتَهُ، وَهَمٍّ قد كفيتَهُ، وإنْ حال دون ذلك حائل لم أَذْمُمْ يومك، ولم أَيْأس من غدك، ثمّ قال( ):
فجئتُــكَ لمّـا أسلمتْنـي البَراجـمُ حَمَلْـتُ دمـاءً للبـراجــم جمّــةً
فقلتُ لهـم: يكفـي الحمالـةَ حاتـمُ وقالـوا سِفـاهـا: لِمْ حَمَلْتَ دماءَنـا؟
وأهـلاً وسهـلا أخطأتْـكَ الأشائـمُ متـى آتِـهِ فيها يَقُـلْ لـي مـرحبـا
زيادةَ مَـنْ حلّـتْ عليـه المكـارمُ فيحملهـا عـنّـي، وإنْ شئتُ زادنـي

إلى أن يقول:
وسَعْــدٌ وعبـد الله تلـك القماقـمُ بـذلـك أوصـاهُ عـديٌّ وحَشْـرَجٌ

فقال له حاتم: إنْ كنتُ لأُحبُّ أن يأتيني مثلُكَ من قومك، هو ذا مِرْباعي من الغارة على بني تميم، فَخُذْهُ وافرا، فإنْ وفّى بالحمالة، وإلاّ أكملتُها لك، وهو مئتا بعير سوى نيبها وفِصالها( ).

أهمّ القيم السّلوكية التي أوصى بها الآباء أبناءهم:
اقتضتْ حكمة الله تعالى أن يبعث الأنبياء الكرام، ليرسموا للبشريّة طريق الحقّ والهداية، وليصحّحوا خطّ سَيْرِ البشريّة بعد انحرافه عن مسلك التَّوحيد، الذي كان يشكّل سِمَةً واضحة في دَعَوات الأنبياء، وركنا أساسيّا من الأركان التي قامتْ عليها الرّسالات.

وكان الموحّدون يشكّلون قاعدة الانطلاق، التي أَخذتْ على عاتقها مسؤولية الاستعداد الفكريّ لتقبّل الحدث العظيم، واستقبال الرّسالة الإسلاميّة.

ويحدّثنا ابن هشام عن طائفة من هؤلاء الموحّدين، الذين كانوا ينتشرون في مكّةَ وأنحاءٍ أُخرى من الجزيرة( )، وقد انطبعتْ في أَذهانهم فكرةُ عبادة الإله الواحد، فكانوا يسخرون من الأصنام وعبادتها، ويترفّعون عن تقديسها.

وها هو صِرْمَةُ بْنُ أَبي أَنَسٍ، الذي ترهّب في الجاهليّة، ولَبِسَ المُسوحَ، يضع لأَبناء عصره دستورا خُلُقيا صاغه من القيم الدّينية والاجتماعيّة، ويحثّهم على الإيمان باللّه، وبرّ الوالدين، والتقوى( ):
ألا ما استطعتُمْ من وَصاتـي فافعلـوا يقول أبو قيـس وأصبــح غاديــا:
وأعـراضِـكُــمْ والـبـرّ بالله أوّلُ فَأُوصيــكُــمُ بالله والبـرّ والتّقـى

وكان لهذا الاتّجاه التوحيدي أثر في السّلوك العام وضَبْط إيقاع الحياة، فنراه يُطلّ على أبنائه، وأبناء مجتمعه بوصايا أُخَرَ، يدعوهم فيها إلى صلة الأرحام، وتقوى الله، وعدم أكل مال اليتيم، ويحذّرهم من صروف الدّهر، ويدعوهم إلى أن يُجمعوا أمرهم على البرّ والتقوى، ويبثُّ فيهم قيم التّوحيد( ):
وَصِـلُـوها قصيــرةً مــن طِـوالِ
ربّمـا يُستحــلّ غَـيْـرُ الـحــلالِ
عالمــاً يهتـدي بغيـر السّــؤالِ
إنّ مـال اليتيـم يـرعــاه والـي
واحـذروا مَكْرَهـا ومَـرَّ الليالــي
ـوى وترك الخنـا وأخـذ الحـلالِ
يـا بَنـيّ، الأرحـامَ لا تقطعـوهـا
واتّقـوا الله فـي ضعـاف اليتامـى
واعـلمــوا أنّ لليتيــم وَلـيّــا
ثُـمّ مـالَ الـيـتـيـم لا تـأكلـوه
يـا بَـنـيّ الأيـامَ لا تـأمـنـوهـا
واجمعـوا أمركـم علـى البرّ والتّقـ


ويدلّ ما بين أيدينا من شعر جاهليّ على أنّ هذه الصّفوة المفكّرة قد آمنَتْ بالله ربّا، وأنّهم كانوا يتوجّهون بالتقرّب إليه، وانطلقوا يحثّون أبناءهم وأبناء مجتمعهم على التمسّك بهذه القيم، قال خَداش بن زهير موصياً أبناءه( ):
مُحاولـةً وأكـثـرهـم عـديــدا رأيـتُ الله أكـبـرَ كــلّ شــيء
رأيـتُ الله قـد غَـلَـبَ الجــدودا تَـقُـوهُ أيّـهـا الـفـتـيـانُ إِنّـى
بحمـد الله مـنـتـطـقـا مجيــدا وأبــرح مــا أدام الله قـومــي

وكانت أوّل وصيّة أَوصى بها عَبْدُ قيس بن خُفاف البُرجميّ ابنه جُبَيْلا تقوى الله، لأنّها المعيار الأخلاقيّ الأسمى، الذي يجعل المرءَ يشعر بالسّعادة( ):
وإذا حَلَفْـتَ مُـمـاريـا فتحلّـــلِ اللهَ فـاتّـقِــهِ وأَوْفِ بـنـــذرهِ

وأوصى عَبَدَةُ بنُ الطّبيب أَبناءه بتقوى الله، وبرّ الوالدين( ):
يُعطـي الرّغائـبَ مَـنْ يشـاءُ ويمنَعُ أُوصـيـكُـمُ بتُقـى الإلـــه فإنّـه
إنّ الأبَـرّ مـن البنيــنَ الأَطْــوَعُ وببـرّ والـدكـم وطـاعــةِ أَمْـرِهِ

ولم يجِدْ أَعشى باهلة ما يوصي به ابنه خيراً من تقوى الله، لأنّها خير زاد( ):
تجدْ غبّهـا يـوم الحسـابِ المطـوّلِ عليـكَ بتقــوى الله في كُـلّ إِمْـرَةٍ
وأفـضــلُ زاد الظّاعـنِ المتحمّـلِ ألا إنّ تـقـوى الله خَـيْــرُ مَغَبّـةٍ
إذا أنـت منهـا بـالتّقـى لم تَرَحّـلِ ولا خَيْرَ في طول الحيـاة وعَرْضِهـا

ويدعو أُميّةُ بْنُ أبي الصّلْت أَبناءه وأبناء مجتمعه إلى تطهير النّفس من النوازع الشرّيرة، وينْهاهم عن خلط الخبيث بالطيّب ويخاطبهم قائلاً( ):
وَاخْلَـعْ ثيابـك منها وَانْجُ عُرْيانــا لا تخلطَــنَّ خبيثــاتٍ بطيّبـــةٍ
أو سَيّئـا ومدينـا كالــذي دانــا كُلُّ امرئ سوف يجزى قَرْضَه حَسَنـا

ويبدو أَنّ الاتّجاه التّوحيديّ، الذي عرفتْهُ الجزيرة العربيّة، قد ترك أَثراً واضحاً في نفوس أبناء المجتمع في عصر ما قبل الإسلام، ونلمس هذا الأَثر فيما أَوْصَتْ به سُبَيْعَةُ بنتُ الأَجَبّ ابنها خالدا، إذ شَرَعتْ تبيّن له مكانة مكة وحرمتها، وتأمره بالابتعاد عن الظلم والبغي فيها، موضّحة له ما سيؤول إليه أمر الظالم، ضاربة المثل بتُبّع وما حلّ به( ):
لا الـصّـغـيــرَ ولا الـكـبـيـرْ أَبُـنَـيّ، لا تـظـلـمْ بـمـكّـــة
ولا يَـغُــرَّنْـــكَ الـغـــرورْ واحـفـظْ مـحـارمـهـا بُـنَــيَّ
يَـلْــقَ أَطـــرافَ الـشّــرورْ أَبـنـيَّ مَـنْ يـظـلــمْ بـمـكّـَةَ

إلى أن تقول:
فكـســا بنـيّـتـهـا الحـبـيـرْ ولـقــد غـزاهــا تُـــبّــعٌ
فـيـهـا وأوفــى بـالـنّــذورْ وأَذلّ ربــــيّ مُــلْــكَـــهُ

فهذه السيّدة الفاضلة تبيّن لابنها مكانة مكّة وحُرْمَتَها، وتأمره بالابتعاد عن الظّلم والبغي فيها، موضّحة له ما سيؤول إليه أَمْرُ الظالم، ضاربةً المثلَ بتُبّعٍ وما حلّ به.

وقد دفعهم إحساسُهم اليائسُ من ردّ الموت والوقوف إِزاءه إلى الحثّ على مواجهته بالتّرحاب، فها هو عبيد بن الأبرص يوصي بنيه وأعمامه، حيث تقدّمتْ سنّه، فلم يَعُدْ للحياة كبير معنى عنده، ولذا استوت الحياة والوفاة عنده، يوصيهم قائلاً( ):
بـأنّ المنـايـا لَـهُــمْ راصــدةْ فـأَبْـلــغْ بَـنـيّ وأَعْـمـامَـهُـمْ
إلـيـهـا وإنْ جَـهَـدوا قـاصـدة لـهــا مُــدّةٌ فـنـفـوسُ العبـاد
وإنْ مـتُّ مـا كـانـت العــائـدةْ فواللهِ إنْ عـشـتُ مـا ســرّنــي

ومما ينبئ باعتقادهم بالبعث والحساب أنّ بعضهم كان يوصي أبناءه بأن يدفنوا معه ناقته كي لا يسير إلى المحشر راجلاً، فيفعلون ذلك، كما قال عمرو بن زيد المتمنّي يوصي ابنه( ):
فـي القبر راحلـةً برحـل قاتـرِ أَبُـنـيَّ، زوّدْنـي إذا فـارقْتَـنــي
مستوثقين معـاً لحشـر الحاشـرِ للبعـث أركبهـا إذا قيــل: اظعنـوا
فالخَلْــقُ بيـن مُدَفّـعٍ أو عاثـرِ مَـنْ لا يـوافـيـه عـلـى عَثَراتِهِ

وكانوا يعتقدون أَنّ الرّجل إذا مات، ولم تربط ناقته على قبره، ليركبها إلى المحشر يوم البعث، حُشر راجلاً، وهذا يدلّ على عقوق الأبناء لآبائهم، أو العشيرة لأبنائها( )، لذا كان الرجل إذا مات عمدوا إلى راحلته التي ركبها، فيوقفونها على قبره معكوسة، رأسها إلى يدها، ملفوفة الرّأس في وَلِيَّتها، فلا تُعلف ولا تُسقى حتّى تموت، ليركبها إذا خرج من قبره، وكانت تلك النّاقةُ التي يُفعل بها هذا تُسمّى "البليّة"( )، فقد أَوصى جُرَيْبَةُ بْنُ أَشْيَمَ الفَقْعَسيّ ابنه سَعْدا ألاّ يترك أباه دونما ناقة يركبها إلى المحشر، فخاطبه بقوله( ):
أُوصيـكَ إنّ أخـا الوصـاةِ الأَقـربُ يـا سـعـدُ، إِمّـا أهلكـنّ فـإنّنـي
في الحشـر يُصـرعُ لليديـن وينكـبُ لا تـتـركـنّ أبـاكَ يعثُـرُ راجـلاً
وَابْغِ المـطـيّــةَ إنّ ذلـك أًصْـوبُ واحـمـلْ أبـاكَ على بعيـر صالـحٍ
في الحَشْرِ أركبهـا إذا قيـل: اركبـوا ولـعـلّ لـي ممّـا تركـتُ مطيّـةً

وأوصى عُوَيْمر النبّهانيّ ابنه قائلاً( ):
لأبـيـكَ يـومَ نُشـوره مـركــوبُ أَبنـيَّ، لا تنْـسَ البليّـــة إنّـهــا

وكان العرب ينحرون على قبور الموتى النّوقَ، ويبلّلونها بالدّم، وربّما كان هذا من الشّعائر الدينيّة والعقائد الجاهليّة التي لها علاقة بأرواح الموتى( )، فقد أوصى جُرَيْبَة بن الأَشْيَمَ ابنه بأن يعقر مطيّته على قبره، وخاطبه قائلاً( ):
سوى الأصرخَيْـن أو يفـوّزَ راكــبُ إذا مِـتُّ فَادْفِنّـي بحـرّاءَ مـا بهـا
فلا قام في مــالٍ لك الدّهـرَ حالـبُ فإِنْ أَنت لم تعقــرْ علـيّ مطيّتــي
بديمـومـة تنـزو عليهـا الجـنـادبُ ولا تدفننّـي فـي صُـوى وادفنّنـي

وكان إكرام الضّيف من أبرز القيم التي أوصى بها الشّعراء الجاهليّون أَبناءهم، فقد كان أبناء ذلك العصر على حال من العيش تعنف كثيراً، وتلين قليلاً، فما أشدّ اضطرابهم بين العنف الكثير واللّين القليل! كانت صبابات الصّحراء من الرّزق موزّعة توزيعاً فرضتْهُ القوّة، ولم تفرضْهُ الرّحمة. والنّاظر في بِنْيَةِ ذلك المجتمع يرى فيه أغنياء قَليلين، وفقراءَ كثيرين، وما كانَ ثَمّةَ شِرْعةٌ أو قوّةٌ تأخذ من الغنيّ لتعطيَ الفقيرَ، فكان الفقير لذلك في مرارة وهَوْل، على نحو ما نجد تعبيرا لذلك في شعر الصّعاليك.

ومن رَحِم المعاناة في تلك الفيافي الواسعة وُلدتْ هذه القيمةُ الإنسانيّةُ، وهذا الخلُقُ النّبيلُ، ليكون مظهراً من مظاهر التّعاون على ظروف حياتهم القاسية، ومن ثَمَّ فَهُمْ معرّضون في أثناء رِحْلاتهم الدّائبة في مجاهل الصّحراء إلى أن يَنْفَدَ ما مَعَهُم من زاد، و"إِذا لم يعمل الكرماء على نجدة هؤلاء الذين امتُحنوا بنفاد زادهم، أو ضَلّوا طريقهم، وتقطّعتْ بهم السّبل تعطّلت الحياة في الصّحراء"( ).

لقد كَثُرَ دورانُ وصيّة إكرام الضّيف في الشّعر الجاهليّ، فالكرم في قوم حبيبة بنت عبد العُزّى قيمة خلقيّة، يتواصى بها الآباء والأجداد، قالت( ):
بجُـنُـوب مكّـة هَدْيُهُـنّ مـقـلّــدُ إِنّي وربِّ الرّاقصـاتِ إلـى مِنــى
أَبـدا ولـكـنّـي أُبيـنُ وأنـشُـــدُ أُولــي علـى هُلْـك الطّعـامِ أليّـةً
نَـفْـضَ الـوعـاءِ وكــلّ زاد ينفـدُ وصّـى بهـا جـدّي وعلّمنـي أَبـي
لا تخـرقَـنْـهُ فـأرة أو جُـدْجُـــدُ فَاحْفَظْ حميِتَـكَ لا أبا لـك واحتـرسْ

ويُقري الأسودُ بنُ يَعْفُرَ النّهشليُّ الضّيفَ، التزاماً بوصيّة أَبيه( ):
وجارُ أَبي تَيْحــانَ ظـمآنُ جائــعُ وإنّي لأُقري الضّيفَ وصّى به أَبــي

ويوصي عبد قيس بن خُفاف البُرجميّ ابنه جُبَيْلا بإكرام ضيفه( ):
حـقٌّ، ولا تـكُ لُـعْـنَـةً للـنــزّلِ والضّـيـفَ أكْـرِمْـهُ فـإنّ مبيتَـهُ
بمبيـتِ ليلتـه وإنْ لــم يُـسْـــأَلِ وَاعْـلَـمْ بـأنّ الضّيفَ مُخْبرُ أهلِـهِ

فإكرام الضّيف حقّ، لا يجوز التّفريط فيه ولا التّهاون، لأنّ التقصير في هذا الحقّ يُلحق به لعنة مدى الدّهر، ولأنّ الضّيف يُشيع هذه الأخبار بين أهله وأبناء مجتمعه سواء سألوه أم لم يسألوه.

ولإكرام الضّيف عند عمرو بن الأَهْتم بُعْدٌ أَخلاقيّ، فيوصي ابنه رِبْعيّا بإكرام ضيفه وقت الشدّة، حين يشحّ الزّادُ، ويضنّ الآخرون( ):
إِذا أَمـسـى وراءَ الـبـيـتِ كــورُ وجـاري لا تُهينَـنْــهُ وضَيــْفـي
عـوانٌ لا يـنـهـنـهـهـا الفـُتـورُ يـؤوبُ إِلـيـك أَشـعـثَ جـرّفتْـهُ
عـلـيـك فـإنّ مـنـطـقـه يَسيـرُ أَصِـبْـهُ بالكـرامـة واحتفـظْــهُ

ويرتبط الجود عند الحارث بن حلّزة بموقف فكريّ مؤدّاه أنّ الإنسان يجب أن يبذل ما لديه للآخرين، لأنّه لا يدري ما سيحدث فيما عنده من المال، فلربّما صار ماله بعد حياته نَهْباً مقسّما بين الوارثين يعيثون فيه. وفي ضوء هذا الفهم خاطب ابنه عمرا وأوصاه بأن يحلب الألبان للأضياف، وألاّ يدّخر شيئاً من ذلك( ):
وقـد حـبـا مـن دونـهـا عـالــجُ قُـلْـتُ لـعـمـرو حيـنَ أَبصرتُـهُ
إِنّـك لا تـدري مــن الـنّـاتـــجُ لا تـكْـسَـعِ الشَّـوْلَ بـأغبـارهـا
فـإنّ شـرّ الـلّـبــن الـوالــــجُ واحـلُـبْ لأَضيـافـك ألـبـانـهـا

إلى أن يقول:
تــاحَ لَـهُ مـن أمـره خـالـــجُ بَيْـنـا الفتـى يَسْعــى ويُسْعى لَـهُ
يـعـيــثُ فـيـه هَـمَـجٌ هامـجُ يتـرُكُ مـا رقّــح مـن عيشــه

وكانتِ المحافظةُ على الجار مظهراً آخَرَ من مظاهر البطولة الاجتماعيّة لدى الفارس العربيّ في العصر الجاهليّ، الذي كان حريصاً على أَنْ يحميَ الضّعيف، ويدفعَ عنه الظّلم، ويتمثّل هذا الخُلُقُ الكريمُ في إِسباغ الحماية على فردٍ أو جماعة هي في حاجة إليها.

لقد كان قانون الجوار من أكثرِ قوانينِ المجتمع الجاهليّ ونُظُمِهِ شُيوعاً وأهميّةً في حياتهم الاجتماعيّة. ولا يكاد القارئ يطالع خَبَرا من أَخبارهم، ولا شعرا من أشعارهم إلاّ أَلْفاهم يتحدّثون عن الجار، ويحثّون أبناءهم على احترامه، والمحافظة عليه، وكأنّه فرد من أفراد الأسرة.

ولم يكن في الجزيرة العربيّة في العصر الجاهليّ حكومة مركزيّة، تستطيع من خلال قوانينها المفروضة، ومؤسّساتها المختلفة، أن تبسط الأَمْن، وتُشيعَ العدالة في حياة النّاس، فتقف في وجه الظّالم، وتردعه عن ظُلْمه، وتساعد الضّعيف، وتأخذ بيده، وتعيد له حقّه من ظالمه، فنشأ هذا النّظام الذي "أَوجدتْهُ ضرورات الحياة العربيّة قبل الإسلام، كبديل للسّلطة المركزيّة. وهو بديل، مهما كان ناقصاً، استطاع على نحو أو آخر، وبدرجة أو بأُخرى أن يؤدّي وظائف السّلطة العامّة، وأن يوفّر للنّاس قدراً من الأمن والطمأنينة، وأنْ يدفع عنهم بعضاً من الظّلم والاضطهاد، وأن يُعيدَ إليهم حقوقاً مغتصبة، وأموالاً منتهبة( ).

واحترم المجتمع الجاهليّ هذا النّظامَ لما له من أهميّة بالغة في حياتهم اليوميّة، حتّى غدا التمسّكُ به قيمةً أخلاقيّةً عُلْيا، فالآباء يوصون أبناءهم بهذا الخُلُق الحميد، ويحرصون على غَرْس هذه القيمة السّلوكيّة في نفوسهم.

فقد تلقى مالك بن حريم بزهو كبير عن أبيه حمايةَ الجارِ وإِكرامَهُ، كي يظلّ في جواره عزيزاً منيع الجانب، يدفع عنه الضّيْم، ويذود عنه، لا سيّما إذا عزّتْ عليه الحمايةُ( ):
وأَمـنـعُـهُ ولـيـس بــه امتنــاعُ وأَوصـانـي الحريــمُ بعزّ جـاري
وأمـنـعُــهُ إذا امـتـنـع المنــاعُ وأدفـع ضَـيْـمَـهُ وأذودُ عـنــه

وأوصى مالك بن فَهْم بَنيه بالمحافظة على الجار، قائلاً( ):
لَسْـتَ في الأَزْدِ إنْ حَلَلْــتَ غريبــا عــزّ مَــنْ كـان مالِـكٌ له جـارُ
حفظـوهـا وكــان فيهـم مُصيـبـا: كـان فَـهْـمٌ أوصــى بَنيه وصـاةً
الجـار، وكونـوا ممّـن أحبّ قريبــا أكـرمـوا الضّيف، واحفظوا حُرْمـة

وأَوصى عمارة بن عوف العدواني ابنته بالحفاظ على الجار، والدّفاع عنه( ):
آمُــرُكُــمْ فــي العُسْـر واليُسْــرِ قلتُ لها، والجــودُ مـن شيمتــي:
فاقْــروا ضيـوفـي قَـحَــدَ الجُـزْرِ بـضـيـفـكـم إِنّ لـه حُــرْمـةً
قـبـلـكـــم ذاك بـنـو عـمــرو وارْعَــوْا لجـار البيت ما قد رعـى
وجــاركُــمْ بــالـنـيّ والخَمْــرِ قـومــوا لضيـف جاءكم طارقــا
بـالـسّـوء بـالبُـتْــرِ وبـالـسُّمْـرِ وذَبّـبـوا مَـنْ رامَ جيـرانَــكُــمْ

وأوصى الأعشى ابنه بَصيراً بأن يَشْدُدَ أَزْرَ المستجير به، وأنْ يدافع من دونه، موقداً نار حرب تسفع الوجوه( ):
وَأَوْقِدْ شهـابا يسفَعُ الوجْــهَ حاميــا وكُنْ من وراءِ الجارِ حِصْنا مُمنّعــا

لقد كان المجتمع الجاهليّ حريصاً على ألاّ يُنتهك عِرْضُ الجار، وعلى أن تبقى الجارة مصونة بعيدة عن الاعتداء عليها، فقد كان من أكرم صفات الإنسان العربيّ في كلّ زمان ومكان أنْ يحافظ على شرف جاراته. وجاء شعرهم يحكي سموّهم عن الجارة، وابتعادهم عنها، وتعظيم حرمتها، حيث أوصى الأعشى ابنه قائلاً( ):
عليــكَ حَــرامٌ فانكحَـنْ أو تأبّــدا ولا تـقْـربَـنّ جـارةً إنّ سِـرّهـا

ويؤكّدُ هذه الوصيّةَ مرّة أخرى في موقع آخَرَ من ديوانه قائلاً( ):
فإِنّــك لا تخفـى علـى الله خافيــا وجارةَ جَنْبِ البَيْتِ لا تَبْغِ ســرّهــا

وهذا رَأْيُ الأعشى فيما يتعلّق بحقّ الجارة، على الرّغم ممّا عُرف عنه من غرام بهذا الجانب.

ويوصي لبيد بن ربيعة ابنه بأَنْ يعفف عن الجارات، وأَن يكرمهنّ( ):
ـهُــنّ مـيـســرَك السّـمينــا واعـفِـفْ عـن الجـاراتِ وامْنحْـ
نّ سـواءَهــا دُهْـمـا وَجـونــا وابـذُلْ سَـنـــامَ الــقـــدر إِ
ـلْ قـبـلَـهْ مـا يـشـتـويـنــا ذا القـدرَ إنْ نَـضِـجَـتْ وعـجّــ
ـــتَ فـلـن تُـرى أبــدا غبينـا تـلـك الـمـكـارمُ إن حـفـــظْ

إنّ الجانب الإنسانيّ يبرز في نفس العربيّ بشكل خاصّ في علاقاته مع جيرانه والمستجيرين به، ولعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قُلْنا: لم تعرف أُمّة من الأُمم – دونما استثناء – حُرمةً، كالحرمة التي عرفها العرب للجيرة. ويخيّل إليّ أنْ ليس في أدب أُمّة من الأمم ما يرفع الجيرةَ إلى مصافّ المآثر العظام مثلما رفعها الأدب العربيّ. وليس غريباً أن يكون هذا النظام – الجوار – أوّل ما نشأ في سبيل حماية الضّعيف من بطش القويّ، وإنصاف المظلوم من الظّالم، فاستطاع هذا النّظام أن يَحدّ من شهوة البطش، وغريزة الانتقام.

كان التمسّك بهذه القيم الأخلاقية قد دفع تميما لتقاتل بني عامر بن صعصعة يوم رحرحان( )، لأنهم أجاروا الحارث بن ظالم المرّي، الذي كان قد قتل زعيمهم خالد بن جعفر الكلابي عند النعمان بن المنذر.
ولا شكّ أنّ جواب هانئ بن مسعود الشيباني حين أجار النعمان بن المنذر وبناته جواب رائع يعلق بالأذهان، حين قال: "هُنّ في ذمّتي لا يُخلص إليهن حتى يُخلص إلى بناتي"( )، ولا يمكن للمرء أن ينسى جوابه الرائع لكسرى حين طلب منه تسليم ما بذمته من مال ونساء، فوقف الرجل وقفة عزّ وشموخ وكبرياء محافظاً على القيم العربية الأصيلة التي تربّى عليها، وقال: "أنا رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردّها على مَنْ أودعها، ولن يسلّم الحرّ الأمانة( ).
لقد حافظ المجتمع الجاهلي –بصورة عامة- على الجار، فصوّر قيس بن زهير حقوق الجار وما يجب أن ينعم به، وما يجب أن يتمتع به من برّ ومعاملة بالمساواة، وردّ كل أذى يتعرض له بالدّفاع عنه( ). ويتابع قوم عمرو بن الأهتم الجار، ويتبعونه بالكرامة حيثما أقام( )، وزهير بن أبي سلمى يطمئن جاره على ماله، ويضمنه له، ويخاطبه قائلاً: إن نما المالُ وزاد في ديارنا فله المال والزيادة، وإنْ أصابه نقص أديناه إليه كاملاً( ).
وكان العرب يولون من ينزل في جوارهم أهمية بالغة، وينزلونه في مرتبة الأهل، ويعدونه من العيال( )، وكانوا يخلطونهم بالنفوس( ).
وأسهمت هذه القيم في التخفيف من حدّة المعاناة اليومية في ظلّ غياب حكومة مركزية تأخذ على يد الظالم وتردعه، وتأخذ بيد الضعيف وتنصفه، فكانت هذه القيم النبيلة قوّة موازية للقانون.
وجاء الإسلام، فوجد في العرب فضائلَ خُلُقيةً، وقيما نفسيّةً، أقرّ كثيراً منها، وعدّل جوانب منها، وصاغها على نحو يتناسب وتعاليمَ الدّين. وكان نظام الجوار من النّظم التي أقرّها الإسلام، وحثّ المسلمين على المحافظة على الجار في كثير من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى( ):{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى و الجار الجُنُب والصَّاحب بالجنب وابن السبيل و ما ملكَتْ أيمانكم}.
وقد أفاد المسلمون في بداية الدّعوة من هذا النّظام؛ إذ كانوا ضعافاً قليلي العدد، فاستجار عثمان بن مظعون بالوليد بن المغيرة( )، واستجار سعد بن عبادة بمطعم بن جُبَيْر، أحد المشركين، وذلك عندما أخذه رجال من قريش بعد أن بايع الرسول، ، وأخذوا يضربونه( ). واستجار الرّسول،  بمطعم بن عديّ، بعد عودته من الطائف( ).

ويأذن الله – سبحانه وتعالى – للرسول -  - أن يُجير المشركين، ويضع للمسلمين توجيهاً عالياً، فقال جلّ من قائل( ): {وإنْ أَحَدٌ من المشركينَ استجارك فأجِرْهُ حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبْلغْهُ مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون}.

ويحثّ الرّسول  المسلمين على الجار، فيقول ( ): "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتّى ظننتُ أَنّه سيورّثه". ويقول ( ): "واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه".

وحَرَص الشاعر الجاهلي على نقاء المجتمع، لتظلّ شبكة العلاقات الإنسانية نقيّة ومُعافاة. وتُعدّ الغَيْبَة والنّميمة من أشدّ الآفات الاجتماعيّة فَتْكا بالمجتمع، وتدميرا لبنيته الاجتماعية، فتنبّه الشاعر إلى خطورتها، وبَذَلَ جهوداً لمكافحتها، فتناول عَبَدَةُ بنُ الطّبيب شخصيّة النمّام، الذي يسعى بسمومه بين النّاس، وقد شبّه كلامه بالعقارب، إذا لَسَعَتْ أَثارتْ حربا، وبعثتْ فتنة، كما يبعث الأخدع عروقه. وضرب مثلاً زَيْدَ بْنَ مالكٍ و قومَهُ، الذين يُغَذّون أَبناءهم سموم العداوة، وهم وِلدان صغار، واستعار لهؤلاء القوم ومشيهم بالنّميمة صورةَ القنفذ، الذي يسعى مستخفيا تحت جنح الظّلام، ويُعرّج بعد ذلك على ذكْر زَيْدٍ، الذي أَفسد أَمر قومه، وبثّ بينهم العداوة، فشتّتهم ومزّق وَحْدَتهم، وخاطب الشاعر أبناءه محذّراً( ):
إِن الضّغـائـن للقـرابــة توضَـعُ وَدَعُوا الضّغينة لا تكُنْ من شـأنكــم
متنصّحـا ذاك السّـمـامُ المنْـقَــعُ وَاعْصُوا الذي يُزْجي النّمائمَ بينـكــم
حَرْبـا كما بَعَــثَ العُروقَ الأَخـدعُ يُزجي عقاربَــهُ ليبعــثَ بينكــم
بيـن القوابــل بالعــداوة ينشَــعُ لا تأمنوا قومــا يشــبُّ صبيُّهــم
حَـدَجـوا قنـافـذَ بالنّميمـة تمـزَعُ قَـوْمٌ إذا دَمَـسَ الظّـلامُ علَيـهــم
حتّـى تشتّـت أمـرُهُـمْ فتصدّعـوا أمثـالُ زيـدٍ حيـن أَفســد رهطَـهُ
يَشْفي غليلَ صدورهم أنْ تُصْـرَعـوا إِنّ الـذيـن تَرَوْنهـم إخــوانَكــم

وقد وقف الجاحظُ على القيمةِ السّلوكيّة لهذه القصيدة، وعلّق عليها بقوله( ): "وهذا الشّعر من غُرر الأشعار، وهو ممّا يحفظ".

وأدرك الشّاعر الجاهليّ الأسباب التي تؤدّي إلى تفسّخ بنية المجتمع، وتخلخل نسيجه الاجتماعيّ، فبثّ في أَبنائه، وأَبناء مجتمعه، قيما سلوكيّة عُلْيا، تؤدّي المحافظة عليها إلى استقرار العلاقات الاجتماعيّة، فيغدو المجتمع قويّا متماسكاً.

ووعى كعب بن زهير أهميّة المحافظة على الأَسرار، وما يترتّب على التّفريط بها من تفسّخ العلاقات الإنسانيّة، فيصوغ خلاصة تجاربه في الحياة فكرا اجتماعيّا يوصي به ابنه قائلاً( ):
أَوْ لا فَأَفضلُ ما استَودَعْتَ أَسْــرارا لا تُـفْـشِ سِـرَّكَ إِلاّ عنـد ذي ثِقَـةٍ
لم تَخْشَ منه لما استَوْدَعْتَ إِظْهــارا صَـدْرا رحيبـا وقلْبـا واسعا صَمِتـا

وإذا كان بعض النّاس يجدون راحة نفسيّة في إِطلاع الآخرين على أَسرارهم، لعلّهم يقدّمون لهم ما يخفّف عنهم الضّغط النّفسيّ، فعليهم أَنْ يحذروا من إِفشاء أَسرارهم إلى ذي نَميمة، وفي هذا يوصي دعامة بن زيد الطّائيّ ابنه قائلاً( ):
فـذاك إذاً ذَنْـبٌ برأسِـكَ يُعْصَـبُ
فـإنّـك ممّـن ضيّـعَ السرَّ أَذْنَـبُ
ولا تُفْشِيَـنْ سِـرّا إلى ذي نميـمــةٍ
إذا مـا جعلـتَ السِـرَّ عند مُضَيَّـعٍ

إِنّ انخفاض منسوب القيم في نفوس بعض أبناء المجتمع كان وما يزال سبباً رئيساً في معاناة الإنسانيّة، فكثيرا ما اكتوى المجتمع بنيران هؤلاء الذين لم يحافظوا على هذه القيمة الخُلُقية، ممّا دفع العقلاء والمفكّرين إلى القول: صدرك أوسع لسرّك.

ويبهرنا دعامة بن زيد الطّائيّ بحرصه على تحلّي ابنه بالآداب العامّة في المجالس، فيوصيه قائلاً( ):
لا تستطيعُ، إذا مَضَــتْ، إدراكَهـا
فاتَـتْ ولمّـا تستطِــعْ إِمْساكَهـا
لا تـقـطـعـنَّ مقالةً في مجلــسٍ
قِسْ كُلَّ أَمْـرِكَ قَبْـلَ جهـرِكَ بالتـي

واهتمّ الشّاعر الجاهليّ برسم ملامح السّلوك الاجتماعيّ، على نحو ما نجد تعبيراً لذلك في وصيّة عديّ بن زيد الِعباديّ، الذي أَسَرَنا بقوله( ):
وَقُـلْ مثْـلَ مـا قالـوا ولا تتزنّـدِ إِذا أَنْتَ فاكَهْـتَ الرّجـالَ فـلا تَلَـعْ
جديـرٌ بتسفيـهِ الحليــمِ المُسَـدّدِ وإيــاكَ مـن فَـرْط المـزاح فإنّـه

لقد صدق عديّ بن زيد، وكان صائباً في وَصاته، فالإفراط في المزاح يُفقد الرّجل الكريم كرامته، ويذهب بهيبته، ويؤدّي إلى قلّة الاحترام بين النّاس.

ويدعو أبناءه أو أبناء مجتمعه إلى الصّفح والتّسامح، ويخاطبهم بقوله( ):
وقـام جُنـاةُ للشَـرّ بالشَـرّ فاقْعُـدِ إذا مــا رَأَيْتَ الشَرَّ يبعــثُ أَهلَـهُ

ويأمرهم بالعدل والبعد عن الجَوْر( ):
وذا الذَمّ فاذْمُمْهُ وذا الحَمْدِ فاحْمَــدِ وبالعَدْلِ فانطِقْ إنْ نَطَقْـتَ ولا تَلُمْ

ومدّ الشّاعر الجاهليّ بصره إلى أَهمّ مؤسّسة من مؤسّسات المجتمع الجاهليّ، ألا وهي مؤسسة قيادة القبيلة، فتبوّأ هذا المنصب، وكان إذا حضره الموتُ، ورأى ابنه جديراً بالسّيادة أوصاه بوصايا ترشده في رئاسته القادمة، فقد رُوي أن الحارث بن كعب، سيّدَ القبيلةِ التي كانت تُسمّى باسمه، أوصى ابنه أشعثَ بأن يكون جريئا مقداما( ):


فاحفَـظْ أبـاك ريـاســةً وتقلّبــا أَبنـيَّ إِنّ أبـاكَ يـومـا هـالــكٌ
إنّ المقـدّم لا يـكــون الأخيبــا وإذا لـقـيـتَ كـتـيـبةً فتقدّمــا
والموتُ يأتـي مَـنْ نـأى وتجنَّبـا تَلْقـى الرّياسـة أَو تمـوتُ بطعنـة

ويوصي المرار الفقعسيّ ابنه، الذي كان يطمح للوصول إلى هذا المنصب المرموق، يوصيه بالحلم، والبعد عن التسرّع والشّتم( ):
فبالحِلْـم سُدْ لا بالتّسـرع والشَّتْــمِ إذا شئـتَ يومـا أَنْ تسـودَ عشيـرةً
من الجهل إلاّ أَنْ تشمّس مِـنْ ظُلْـمِ ولَلْحِلْْـمُ خَيْـرٌ، فاعْلَمَـنّ، مغـبّــةً

وحَرَص الشّاعر الجاهليّ في وصاياه لأبنائه على تعزيز صلتهم بالقبيلة، وبيان واجباتهم، وما يجب أن ينهضوا به في الملمّات. فقد أوصى صِرْمَةُ بن أبي أَنَسٍ أبناءه، وفصّل لهم حقوق قبيلتهم عليهم، وخاطبهم قائلاً( ):
وإن كنتُمُ أَهْــلَ الرّياسـةِ فاعـدلـوا وإِنْ قومُكُمْ سـادوا فـلا تحسدنّهــم
فأنفسَــكُـمْ دونَ العشيـرةِ فاجعلـوا وإِنْ نزلتْ إحدى الدّواهــي بقومكـم
وما حمّلوكم فـي الملمّـات فاحملـوا وإنْ نابَ غُــرْمٌ فــادحٌ فارفُقُوهُـمُ

وأوصى الأعشى ابنَهُ بَصيراً بأَنْ يشارك سادة الحيّ فيما ينوب من مغارم( ):
ولا تكُ عن حَمْل الرّباعــة وانيــا وآسِ سَراةَ الحــيّ حيــثُ لقيتَهُـمْ

وأوصاه بألاّ يتخلّى عن قومه إِنْ مَسَّهم ضُرّ، لأنّ تلك المشاركة سبيل إلى المجد( ):
فإنّك لا تعدم إلــى المجـد داعيــا ولا تخذلنّ القَــوْمَ إنْ نـابَ مَغْـرَمٌ

ويُشيدُ كعب بن زهير بما وصّاه به أبوه، قائلاً( ):
وبالـدّفْـع عنهـا فـي أُمـور تَريبُهـا وبالعَفْـو وصّانـي أَبي وعشيرتــي
ونـفـسَـكَ جنّبهـا الـذي قـد يَعيبُهـا وقـومَـكَ فاسْتَبـقِ المـودّةَ فيهــم

ويدلّ استقراء شعر كعب على أنّه دافع عن قبيلته مُزَيْنَةَ في مواقف عديدة، و"كان لا بُدّ له من أن يخوض مشكلات واقعها القبليّ، ويذود عنها بدافع من الالتزام بوصايا أبيه"( ).

وأَوصى قيس بن عاصم بَنيه بأن يُسوّدوا كبارهم وحلماءهم، ويحافظوا على حقوق صغارهم( ):

أنْ يُـرى مـنـكُـمُ لَـهُـمْ تسويــدُ وَذَوو الحِـلْـمِ والأَكـابـرُ أَولــى
يـبـلُـغَ الحِنْـثَ الأصغـرُ المجهـودُ وعليكُمُ حِفْـظَ الأصـاغـرِ حتّــى

وأوصى عبد قيس بن خُفاف البُرْجُميّ ابنه جُبَيْلا أن يشارك قومه فقرهم وضيقهم، وخاطبه بقوله( ):
غُـبُـرا أكـفُّـهُـمُ بقـاعٍ مُمْحـــلِ وإذا لقيــتَ الباهشيـن إلـى النّـدى
وإذا هـمُ نـزلـوا بـضَـنْـكٍ فانـزِلِ فـأعِـنْـهُـمُ وَايْسِرْ بما يَسَروا بــهِ

وإذا ما لحق جُبَيْلا ذُلّ وهوان في مكان إقامته، أو من أحد من أفراد قبيلته فعليه أن يتحوّل عن ذلك المكان( ):
وإذا نـبـا بــكَ منــزلٌ فتـحـوّلِ وَاتْرُكْ محلّ السَّــوْءِ لا تحلُـلْ بـه
أَفراحِلٌ عنهـا كَـمَـنْ لـم يـَرْحَــلِ دارُ الهَــوانِ لمــن رآهــا دارَهُ

وقد يتنازع الإنسانَ موقفان: أحدهما يدعوه إلى مقابلة الشرّ بالشرّ، والآخر يدعوه إلى الصّفح الجميل، فيأسرنا عبد قيس بن خُفاف البُرجميّ بهذه القيم الإنسانيّة التي تجعل من ابنه رجلاً فذّا( ):
وإذا هَمَمْـتَ بأَمْـر خَـيْـر فـافْـعَـلِ وإذا هَمَمْــتَ بأَمْـرِ شـرّ فَاتّـئـدْ
أَمران فاعْمِـــدْ للأعــفّ الأجمــلِ وإذا تـشـاجـر فـي فـؤادك مـرّةً

ولَعَمْري، فهذا هو الأدب الرّفيع، الذي يغرس القيمَ السّلوكيةَ في نفوس الأبناء ويصقلها، ويعدّهم إِعداداً نفسيّاً ووجدانيّاً واجتماعيّاً، ويجعلهم قادرين على النّهوض بواجباتهم نحو مجتمعهم، ويخلق منهم مواطنين صالحين. وعلى الآباء أنْ يعزفوا هذه الأناشيد أمام الأبناء دونما مَلَلٍ ولا كَلَل، لأَنّ الأُمّة التي تسودها هذه القيمُ هي أُمّة متحضّرة، لديها حضارةٌ نفسيّةٌ عريقةٌ تزهو بها وتعتزّ.

وهذا ذو الإصبع العدواني أَحَدُ حكماء العرب في الجاهليّة، خاض غمار الحياة، وعرف ما فيها من خير وشرّ، وعُمِّر طويلاً حتّى ملّ الحياة، وعلم أَنّه مهما عاش فلا بُدّ من الموت، فَلْيتركْ لابنه خيراً ومأثرة وهدى، إذ أراده أن يكون سيّد قومه وحكيمهم، فشرع يوصيه بهذه الوصية( ): "يا بُنَيّ إنّ أباك قد فني وهو حيّ، وعاش حتّى سئم العيش، وإِنّي موصيك بما إِن حفظتَهُ، بلغْتَ في قومك ما بَلَغْتُهُ، فاحفظْ عنّي: أَلِنْ جانبك لقومك يحبّوك، وتواضَعْ لهم يرفعوك، وابسُطْ لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثرْ عليهم بشيء يسوّدوك، وأَكْرِمْ صغارهم كما تكرمُ كبارهم، يكرمْكَ كبارُهم، واسْمَحْ بمالك، واحْمِ حريمك، واعْزُزْ جارك، وأعِنْ مَن استعان بك، وأكرمْ ضَيْفَك، وأسرع النّهضة في الصّريخ، فإنَّ لك أجَلا لا يعدوك، وصُنْ وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتمّ سؤدُدُك".

ولم يكتفِ ذو الاصبع بالمنثور، بل أنشأ على الفَوْر قصيدة رائعة ضمّنها وصايا أُخَرَ، فأمَرَ ابنه أُسَيْداً باصطفاء الكرام ومؤاخاتهم، مدركاً بذلك أَثَر صحبة الأخيار في تربية الخلُق، وتقويم النّفس. فالإنسان مولع بالتّقليد، فمثلما يقلّد مَنْ حَوْلَهُ في الملبس والمسكن، يقلّدهم في الخُلُق، ويتخلّق بأخلاقهم، فقد قال أحد الحكماء: "نبّئني عمّن تُصاحب أُنبئك مَنْ أنت"( ). فمعاشرة الرّجل الكريم تُلقي في نفس الإنسان المروءة والنّخوة، لذا يأمر هذا الأبُ ابنه بأن يلزم صداقة الكرام، وأنْ يشرب بكأسهم، ولو شربوا به سُمّا ناقعاً، وأن يكون وَصولا لهم وَدودا، لأنّ في صداقتهم فضلاً له( ):
ــتَ إلــى إِخـائـهـمُ سـبـيـلا آخِ الــكــرامَ إِنِ اسْـتَـطَـعْــ
شـربـوا بــه الـسمّ الـثّـمـيـلا واشــربْ بـكـأسـهــــم وإنْ
لإخــائـهـم جَـمـــلا ذَلــولا أَهِــنَ الـلّـئــامَ ولا تَـكُـــنْ
خـيـهــمْ وجـدتَ لـهـم فضـولا إِنّ الـكـــرامَ إذا تُـــــــؤا
تـرجــو مَــوَدّتـــه وَصــولا وَصِـلِ الـكـرامَ وَكُــنْ لِـمَــنْ

ويدعو ابنه أُسَيْدا إلى أنْ يستشرفَ ويقيمَ في الأماكن العالية، وأن يحلّ على الأَيْفاع، لتكون ناره بارزة، يهتدي بها الضّيوف، ويلجأ إليه كلّ طالب معروف، ويأمره قائلاً( ):
ـلِـكَ مُـكْـرِمـا حـتّــى يــزولا وابـذلْ لـضـيـفـك ذاتَ رَحْـــ
ـا فـيـن وَاجْـتَـنـبِ الـمـسـيـلا واحْـلُـلْ عـلـى الأَيْفـاع للعـــ

ويرسم لابنه سياسة ماليّة، قائمة على أن يتصرف في المال تصرّفا جميلا، وأن يكون مسيطرا على المال، وألاّ يكون المال مسيطرا عليه، فالمال وسيلة لبناء المجد، والبذل، لا ليكدّس في الخزائن، لأنّ المال – حينئذ – لا يبكي صاحبه، الذي جدّ في جمعه، وربّما جمعه بطرق شائنه( ):
ـتَ فَـسِـرْ بـه سَـيْــرا جميــلا أَأُسَـيْــدُ إِنْ مــالاً مـلـكْــــ
يـبـكـي إذا فَـقَــدَ البـخـيـــلا أَبُـنَــيّ إنّ الـمـــــــالَ لا
وامــدُدْ لـهـا بـاعــا طـويــلا وَابْـسُــطْ يـمـيـنَــكَ بالنّـدى
ـتَ وشـيّــدِ الـحَـسَـبَ الأَثـيـلا وَابْـسُــطْ يَـدَيْـكَ بـما ملكْـــ

ويدعوه إلى أن يكون جريئا مِقْداما، ينقضّ على خصمِهِ كما ينقضّ اللّيث على فريسته، ويدعوه إلى مواجهة أفدح الأُمور بِجَلَدٍ وصَبْر( ):
يومــا وأرعــدتِ الـخَـصـيــلا وإذا الـقُــرومُ تَـخـــاطَــرَتْ
ــبَ مـن فـريـسـتـه الـتّـلـيلا فـاهصِـرْ كهصْـرِ اللّيثَ خَضّـــ
أبـطالُـهـا كـرهـــوا الـنُّــزولا وانــزِلْ إلـى الـهـيـجـــا إذا
ــمّ فـكُـنْ لـفـادحـه حَــمــولا وإذا دُعـيــتَ إلـى الـمُـهِـــ

ويحثّه على المحافظة على الصّديق( ):
بَـلَــدٍ إلــى بَــلَـدٍ رحــيــلا أَأُسَـيْـدُ إِنْ أَزمـعــتَ مــــن
رُ أَخــا أَخـيــك أو الـزّمـيــلا فاحـفــظْ وإنْ شَـحَـطَ الـمــزا

وتأخذ القيم التّربوية عند حسّان بن ثابت بُعْداً أخلاقيّا متميّزا، يبهَرُ القارئ، وينزع إعجابَهُ. فنرى الشّاعر حريصاً على إِعداد ابنه إِعداداً نفسيّاً، فيأمره بألاّ يصغيَ إِلى ما هو قبيح، فضلا عن عدم جواز النّطق به أصلا، وإنْ جلس في مجلس، ونطق أحد فيه كلاما قبيحا، فعليه أن يصمّ أُذنيه، وأن يتغافل عن ذلك، كي تظلّ نفسيته نقيّة.

وينهى فتاه عن الإلحاح في السُّؤال، ويأمره بمجالسة الكرام، وعليه أن يُحسن انتقاءهم واختيارهم. ويدعوه إلى قيم نفسيّة كالجود، والحثّ على الطّاعة، وكسب الفضائل، وعدم تناول الخمرة، أو عدم الإدمان عليها، كي لا يصبح موبوءا، ينفر منه الأسوياء الأصحّاء، وقد ضمّن هذه الفضائل النفسيّة قوله( ):
واقْعُــدْ كأَنّــك غافِــلُ لا تَسْمَــعُ
فَلَرُبَّ حافرِ حفــرة هــو يُصْــرَعُ
وإذا اتّبعــتَ فأَبْصِـرَنْ مَـنْ تتبَــعُ
إنّ الغـوايـة كُـلَّ شــرّ تَـجْمَــعُ
لا تقْعُــدَنّ خـلالـهــم تتسَمّـــعُ
تَـخْـرُجْ صحيـحَ الرأسِ لا تتصـدّعُ
فبدينهــا تجــزى وعنهــا تدفَــعُ
أَعْرِضْ عن العـوراءِ إِنْ أُسْمِعْتَهــا
وَدَعِ السّـؤالَ عن الأُمـورِ وحفرهـا
والــزَمْ مجالســةَ الكرامِ وفعلَهُـمْ
لا تَتْبَعَــنَّ غَــوايــةً لصبابــة
والقـومُ إنْ نزروا فَزِدْ في نَزْرهــمْ
والشّــربَ لا تدْمِنْ وَخُذْ معروفَــهُ
واكــدَحْ لِنَفْسكَ لا تكلّـف غيرَهــا


ويصوغ عمرو بن الأهتم لابنه رِبْعيّ دستورا أَخلاقيّا، يضمّنه خلاصة تجارِبِهِ في الحياة، كانت المحافظة على المجد أبرز ما فيه( ):
إِذا حَـزَبَــتْ عشيرتَــكَ الأُمــورُ
وحـفـظُ الـسُّـورةِ العُليــا كبيــرُ
ومـصـدرُ غـِبّـهِ كــرمٌ وخِيــرُ
تـجـودَ بـا يضـنُّ بـه الضّميــرُ
يهابُ ركوبَهــا الــوَرِعُ الدَّثَــورُ
لقد أَوْصَيْتُ ربعيَّ بْـــنَ عمــروٍ:
بأنْ لا تُفْسدَنْ مـــا قــد سَعَيْنــا
وإنّ الـمـجـدَ أَوّلُــهُ وُعـــورٌ
وإنّك لـن تنــالَ المجــدَ حتّــى
بنفســك أو بمـالــك في أُمــورٍ

وَحَرَص قيس بن عاصم على تعزيز العلاقات الإنسانيّة بين أبنائه، وهي قضيّة – كانت وما تزال – تشغل بالَ الآباء، وتؤرّقهم. فلّا حضرتْهُ الوفاةُ، جمع بَنيه، وقال لهم: فَلْيأتني كلّ واحد منكم بعود، فاجتمع عنده عيدان، فجمعها وشدّها، وقال: اكسروها، فلم يُطيقوا ذلك، ثم فرّقها فكسرها، فقال: هذا مثلكم في اجتماعكم وتفرّقكم، ودعاهم إلى الاتّحاد وإصلاح ذات بينهم، لأنّ فيه طولَ بقائهم، وسرَّ قوّتهم وتماسُكَهم، ودعاهم إلى أن يُحبّ بعضهم بعضا، ثمّ خاطبهم بقوله( ):
إنْ مُدَّ في عُمْــري وإنْ لم يُمْــدَدِ
لمسوّد منكـــم وغيــرِ مُسَــوّدِ
بالكَسْرِ ذو حَنَــقٍ وبَطْـشٍ أيّــدِ
فالـوَهْــنُ والتّكسيــر للمتبــدّدِ
بصلاحِ ذاتِ البَيْن طولُ بقــائكُــمْ
حتّى تليــنَ جلودُكُــمْ وقلوبُكُــمْ
إِنّ القِــداحَ إِذا جُمَعْـنَ فـرامَهــا
عَزّتْ فلم تُكْسَرْ وإن هــيَ بُــدّدَتْ


ويشغل الحرص على مستقبل الأبناء بالَ قيس ويؤرّقه مرّة أُخرى. فنراه – كما تدلّ رواية صاحب الأغاني – يجمع أبناءه مرّة ثانية، ليطمئن على متانة علاقاتهم بعد وفاته، وكان قد جمع ثمانين سَهْما، ربطها بوتَر، ثمّ قال: اكسروها، فلم يستطيعوا، ثمّ قال: فَرّقوا. ففرّقوا، فقال: اكسروها سهما سهما، فكسروها، فقال: هكذا أنتم في الاجتماع وفي الفُرْقة، ثم خاطب أبناءه، مرّة أُخرى، داعيا إلى وَحْدتهم( ):
جَمَعَتْهُـمْ في النّـائبـاتِ الـعُـهـودُ
شـدّهـا للـزّمـانِ قِـدْحٌ شـديــدُ
ـهُـمُ أودى بجمعهـا الـتـبـديــدُ
وثـلاثـون يـا بَـنـيَّ إذا مـــا
كثـلاثـيـن مـن قِـداحٍ إذا مــا
لَــمْ تـكسّـرْ وإنْ تفـرّقـتِ الأسـ


وحثّ أبناءه على السَّيْر على سنن الآباء، وإعلاء بنيان المجد، الذي أرسى دعائمه( ):
قِ وأحـيـا فَـعـالَـهُ المَـوْلــودُ
ــمُ إذا زانَـهُ عَفـــافٌ وجــود
إِنّما المجدُ ما بنـي والــدُ الصّــد
وتمــام الفضـلِ الشّجاعـةُ والحِلْـ


وأوصى النّمر بن تَوْلَب فتاه بأنْ يبني مجده بيديه، وألاّ يعتمد على غيره، لأنّ الناس لا يبنون له ما يهدمه بيديه، ويجنّب نفسه الخيانة، وينأى عن الإثم( ):
ءِ: أَلاّ يـخــونَ ولا يَـأْثَــمـــا
فـلــن يـبـنـيَ النّاسُ ما هدّمــا
وأُوصـــي الفتــى بابتناء العَـلا
ويَلْبَـسَ لـلـدّهــرِ أَجْــلالَــهُ


وأَوْصى ابنه بألاّ يطلق لعواطفه العنان، فلا يغرق في الحبّ أو الكره، وإنّما يجب أن يعتدل في ذلك، لأنّ الزّمان قد يدور، فينقلب الصّديق عدوّا، وقد ينقلب العدوّ صديقا، فخاطب ابنه قائلاً( ):
لئـلا يعـولَـكَ أنْ تَصْــرِمـــا
إذا أنـــت حاولــتَ أن تحكُمــا
وَاحْـبِـبْ حـبيبَـكَ حُبّـا رويــدا
وَابْغُـضْ بغيضَـكَ بُغْضـا رويــدا


وكان الحفاظ على الأمانة من أهمّ القيم السّلوكية التي حرص نُفَيْلُ بْنُ مرّةَ العبديّ على تعزيزها في نفس ابنه، فحثّه على التمسّك بقيم ال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
آيـــــة
عضو إدارة
عضو إدارة
آيـــــة


انثى
العذراء عدد المساهمات : 7427
نقاط : 13165
تاريخ التسجيل : 14/07/2010
العمر : 37

وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Empty
مُساهمةموضوع: رد: وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي   وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 11:52 pm

شكرا كتير على جهودك

ومواضيعك المفيدة

بالتوفيق يارب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
وصايا الأدباء في الشعر الجاهلي والإسلامي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» أسلوب الشعر الجاهلي
» وصف الطبيعة في الشعر الجاهلي
» طريقة تحليل نصّ أدبيّ الشعر الجاهلي أنموذجاً
» موسوعة الشعر و الأدب العربي : العصر الجاهلي ( امرؤ القيس )
» موسوعة الشعر و الادب العربي : شعراء العصر الجاهلي ( عنترة )

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى كلية الآداب في جامعة تشرين :: أقسام الاداب :: الادب العربي-
انتقل الى: