حقيقة الملك و أصنافهالملك منصب طبيعي للإنسانلأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيلقوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مدكل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوةالبشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماءو إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظةفاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلكمن العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية و هذاالملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات و يحتاج إلى المدافعات. و لا يتمشيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر و العصبيات متفاوتة و كل عصبية فلها تحكم و تغلبعلى من يليها من قومها و عشيرها و ليس الملك لكل عصبية و إنما الملك على الحقيقةلمن يستعبد الرعية و يجبي الأموال و يبعث البعوث و يحمي الثغور و لا تكون فوق يدهيد قاهرة و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثلحماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقعلكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان و لملوك العجم صدر الدولةالعباسية. ***********************************************************************
التعليم للعلم من جملة الصنائعو ذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه و الاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه و قواعده والوقوف على مسائله و استنباط فروعه من أصوله. و ما لم تحصل هذه الملكة لم يكنالحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. و هذه الملكة هي في غير الفهم و الوعي. لأنانجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد و وعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدئ فيه و بين العامي الذي لم يعرف علماً و بين العالم النحرير. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في. الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكةغير الفهم و الوعي. و الملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ منالفكر و غيره كالحساب. و الجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم.
***********************************************************************
العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارةو السببفي ذلك أن تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائعإنما تكثر في الأمصار. و على نسبة عمرانها في الكثرة و القلة و الحضارة و الترفتكون نسبة الصنائع في الجودة و الكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمالأهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان و هي العلوم و الصنائع. و من تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى و الأمصار غيرالمتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو. كماقدمناه و لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها. واعتبر ما قررناه بحال بغداد و قرطبة و القيروان و البصرة و الكوفة لما كثر عمرانهاصدر الإسلام و استوت فيها الحضارة.
تم بعون الله وحمده